الحياة اللندنية – الإثنين, 11 يناير 2010
ماذا يعني إعلان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ومن أمام منزل المرجع الشيعي علي السيستاني، بأنه سوف يتحالف مع «الائتلاف الوطني العراقي» الذي رفض الانضمام إليه سابقاً على رغم كل الضغوط التي مورست عليه والوساطات المحلية والإقليمية التي سعت إلى تقريبه منه؟ ولماذا حرص السيد المالكي على أن يعلن هذا الأمر من ذلك المكان تحديداً وبعد خروجه من منزل المرجع الديني مباشرة ؟.

الدلالة الواضحة لهذا العمل هي أن المالكي يريد الإيحاء للناخبين أن قراره بالتحالف مع الائتلاف هو استجابة لرغبة السيد السيتساني، وهذا زج صريح للمرجعية الشيعية في العملية السياسية وإدخالها طرفاً في الانتخابات، خلافاً لرغبتها المعلنة. إعلان المالكي هذا يمثل نهاية لكل التوقعات عن رغبته في مغادرة الماضي وفتح صفحة جديدة تؤسس لحكم مدني يتعامل مع الناس على أساس المواطنة، وليس المذهب أو الدين أو المنطقة، وقد تلاشت معه الآمال بإقامة ديمقراطية حقيقية تنصف الإنسان وتبتعد عن توظيف العصبيات الدينية والمذهبية لأهداف سياسية ضيقة.

إن اتحد الائتلافان، الوطني ودولة القانون، قبل الانتخابات أو بعدها، وهذا مرجح بعد إعلان المالكي الأخير، فإن هذا الاندماج سيكون على اساس طائفي بحت، إذ لا يجمع بين مكونات هذين الائتلافين جامع سوى التخندق الطائفي من أجل الفوز الانتخابي واقتسام السلطة بين أطرافه المتناحرة، ليعود الاحتراب والصراع بينهم فور إعلان نتائج الانتخابات. كثيرون ظنوا، وبينهم كاتب السطور، أن المالكي باختياره الابتعاد عن مكونات الائتلاف السابق إنما كان قد أدرك عبر التجربة العملية خلال أربع سنوات في الحكم أن التخندق الطائفي لم يعمل إلا على تمزيق البلاد وتخريب الاقتصاد، وأن إقحام الدين والمرجعية الدينية مرة أخرى في كل صغيرة وكبيرة في أمور الدولة قد اضر بالدولة أولاً والدين ثانياً وأن الأسلم والأنفع لكليهما أن يستقلا إدارياً عن بعضهما البعض كي يتمكنا من خدمة أهدافهما الأساسية.

إلا أن السعي نحو السلطة قد تقدم على المبادئ على ما يبدو، والمصلحة الشخصية والحزبية قد تقدمت على المصلحة الوطنية، ومن هنا جاء هذا الإعلان المتأخر والذي لا تخفى أسبابه على المتابع للشأن العراقي. فالمالكي ظن سابقاً أنه سوف يكتسح الشارع وأنه لا حاجة له بالتحالف مع أحد من أجل الفوز برئاسة الحكومة، خصوصاً إذا كان هؤلاء خصومه ومنافسيه. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن وبدأت سلسلة تفجيرات دموية في أهم وزارات الدولة ومؤسساتها من الخارجية والمالية والصحة والعدل والبلديات إلى مجلس محافظة بغداد لتحصد المئات من أرواح الأبرياء وتنهي مرحلة الاستقرار الأمني التي اعتبرها المالكي من أهم إنجازاته وعول عليها كثيراً في إعادته إلى السلطة. وبعد أن تلاشت آماله في الفوز منفرداً، على الأقل وفق حساباته، قرر الطائر المتمرد أن يعود إلى السرب كي يضمن السلامة، ولكن لا رحمة ترتجى من خصوم أشداء، فقد وقعت دعوة المالكي على آذان صماء، إذ رفضها منافسه عادل عبد المهدي ومن نفس المكان الذي أطلقها منه المالكي: بوابة السيستاني.

إن تراجع المالكي عن رأيه الذي تمسك به طوال العام الماضي، ولجوءه إلى التحالف مع منافسيه، دليل ضعف وهلع وهو موقف سيُخسِره الصدقية التي تمتع بها خلال فترة حكمه وسيُفقِده كثيراً من الأصوات التي ستذهب إلى خصومه في «الحركة الوطنية» و «وحدة العراق» و «الائتلاف».

إلا أنه «في كل سحابة سوداء طوق فضي» كما يقول الإنكليز، فإن هناك إيجابيات لهذا التحالف الجديد منها أن الصورة أصبحت أكثر وضوحاً أمام الناخب العراقي، فهناك ثلاثة أطراف رئيسية واضحة المعالم هي ائتلاف الإسلامين الشيعة الذي يقوده المالكي – الجعفري – عبد المهدي، وتحالف القوى العلمانية الذي يقوده علاوي – المطلق – النجيفي – الهاشمي – العيساوي، وتحالف القوى الكردية بقيادة بارزاني – طالباني.

أما تحالف وحدة العراق بقيادة وزير الداخلية، جواد البولاني، فهو، على رغم أهميته، بهوية سياسية غير واضحة المعالم. فالبولاني كان إسلامياً، ثم تحالف مع أحمد الجلبي في انتخابات 2005، فلم يفز فأعلن أنه مستقل كي يؤهل نفسه لتولي منصب وزير الداخلية. أما الآن فإن تحالفاته متنوعة ومتشابكة، تبدأ من الشيخ أحمد أبو ريشة ووزير الدفاع السابق سعدون الدليمي، وعضو مجلس الحكم السابق أحمد البراك، ورجل الأعمال سعد عاصم الجنابي، ولا تنتهي عند رئيس ديوان الوقف السني، أحمد عبد الغفور السامرائي، الذي أعلن فجأة انتقاله إلى العمل السياسي، إضافة إلى منصبه الديني.

إن هذه التحالفات، المتنوعة في رأي البعض، والمتناقضة في رأي آخرين، تزيد من الغموض الذي يحيط بائتلاف البولاني ولن تكون كلياً في مصلحته. أما حركة التغيير الكردية بزعامة نوشروان مصطفى، فيتوقع أن تعزز مواقعها على المستوى الوطني وسيكون ذلك على حساب الحزبين الكرديين الرئيسيين. أما جبهة التوافق فقد ضعفت كثيراً إثر ضعف الاصطفافات الطائفية، وغادرها الكثير من جماهيرها وشخصياتها ولم يبق سوى الحزب الإسلامي الذي تخلى عنه حتى زعيمه، طارق الهاشمي، لينضم إلى تحالف الحركة الوطنية. ولكن هل ستعيد تحالفات المالكي الجديدة الحياة لجبهة التوافق باعتبار أنها أحيت التحالفات الطائفية؟. لا أعتقد ذلك لأن الكثيرين من الذين انضووا تحت لواء جبهة التوافق أو أيدوها لأسباب مذهبية أدركوا أن التحالفات الطائفية لا تخدمهم وليست في مصلحة من يسعون إلى تمثيلهم، لذلك انضم معظمهم إلى تحالف «الحركة الوطنية».

خيار الناخب أصبح واضحاً: بين قوى إسلامية متخندقة طائفياً وقوى علمانية ليبرالية في العراق العربي، وبين قوى قومية تقليدية وأخرى قومية ليبرالية في العراق الكردي. وإن كان هناك قدر من التنافس المتكافئ في كردستان باعتبار أن معظم المتنافسين علمانيون، فإن المعركة لن تكون متكافئة في العراق العربي لأن الائتلاف الشيعي سيلجأ إلى أساليبه السابقة بإقحام الدين والمذهب والمرجعية الشيعية في العملية الانتخابية، ولن يجدي تأكيد المرجعية المتكرر أنها على مسافة متساوية من الجميع، فهذا التأكيد لم ينفع سابقاً وقد تحايل عليه الائتلاف حتى في الانتخابات المحلية الأخيرة عندما صرَّح أحد أعضائه بأنه «صحيح أن المرجعية الدينية تقف على مسافات متساوية من القوى السياسية، ولكن هل تقف القوى السياسية على مسافات متساوية من المرجعية؟» وقد أجاب بالنفي مدعياً أن حزبه هو «الأقرب» إلى المرجعية! وهذا لعمري اكتشاف جديد في علم الهندسة يُسجل لمخترعه. إن عودة التحالفات الطائفية السابقة إلى الساحة لن تخدم إلا المتحالفين أنفسهم الذين جربهم العراقيون مرتين من قبل ولم يحصدوا إلا الأذى وخيبة الأمل.


http://international.daralhayat.com/internationalarticle/95926