• الحياة اللندنية-الأحد, 17 يناير 2010
    فوجئت الأوساط السياسية والشعبية العراقية بقرار «هيئة المساءلة والعدالة» استبعاد جبهة الحوار الوطني وزعيمها صالح المطلك من العملية السياسية بحجة أنه «يروج لأفكار حزب البعث»، على رغم أنه لم يطرأ أي تغيير على أفكار الرجل منذ دخوله العملية السياسية عام 2004. بل يمكن القول إن أفكار المطلك ازدادت عقلانية وخبرة.

    دخل المطلك السياسة من باب المعارضة للاحتلال الأميركي، ولم يلعب قبل ذلك أي دور سياسي بل كان رجل أعمال منصرفاً كلياً لأعماله، على رغم أنه كان في شبابه بعثياً لكنه فصل من الحزب عام 1973 بسبب مواقفه الناقدة. امتاز خطابه بالوطنية والترفع عن الطائفية، بل حاربها بقوة، فاختير المطلك من قبل الأحزاب الشيعية والكردية مطلع 2005 للمشاركة في كتابة الدستور للتعويض عن الغياب السُني في الجمعية الوطنية بسبب مقاطعة السنة للانتخابات. وقد كانت الأوساط السياسية فرحة جداً بدخوله في العملية السياسية ولم يعترض عليه أحد حينئذ وخطابه لم يتغير: معارضة الاحتلال الأميركي والمحاصصة الطائفية والاستعجال في إجراء الانتخابات في وقت كانت المجموعات المسلحة تسرح وتمرح في العديد من مناطق العراق، خصوصاً السنية منها.

    ومع كل اعتراضاته، قرر المطلك المشاركة في الانتخابات وأسس جبهة الحوار الوطني التي فازت بـ 11 مقعداً، على رغم الاستقطاب الطائفي والشحن الديني والمناطقي. وقد فوجئ كثيرون بحجم التأييد الذي يتمتع به، لكن كثيرين من المتابعين لم يفاجأوا بهذا الفوز الذي ارتكز على أسس عدة منها أن خطابه السياسي كان موجهاً لشريحة معينة من العراقيين، وهي تحديداً العلمانيون والقوميون والبعثيون السابقون. كما أن الرجل يتمتع بكاريزما غائبة عند كثيرين من منافسيه.

    لقد دخل المطلك العملية الانتخابية عن إيمان بضرورة المشاركة كي يكون فكره حاضراً وممثلاً في البرلمان وفي تشكيل العراق الجديد. لم تكن مشاركته من دون ثمن، فقد اغتيل شقيقه من قبل المجموعات المتطرفة عقاباً له على مشاركته التي أرادتها المجموعات المتطرفة أن تكون عرجاء، مقتصرة على الشيعة والأكراد. ولم يكن وحيداً في ذلك فقد استهدف طارق الهاشمي وقتل اثنان من أشقائه، بينما اغتيل كثيرون من المعتدلين السُنة، سياسيين ومفكرين، على أيدي المجموعات المسلحة، بينما أُختُطِف آخرون.

    لقد خاطر السياسيون السُنة بحياتهم وحياة ذويهم ودفعوا الثمن غالياً من أجل المشاركة في العملية السياسية وكان شركاؤهم الآخرون يقدرون هذه التضحيات.

    فمن الواضح أن دوافع سياسية تقف وراء استبعاد المطلك تحديداً، فالسيد علي فيصل اللامي، المدير في هيئة المساءلة والعدالة، هو مرشح في الائتلاف الوطني العراقي، بحسب اعترافه قبل أيام في برنامج تلفزيوني.

    ويبدو أن المالكي يؤيد هذا الإجراء، فقد قال في خطاب متلفز إن بعض السياسيين «يجب طردهم» من العملية السياسية! وهذا منطق جديد وبعيد عن الديموقراطية التي ما فتئ يلهج بذكرها بعدما كان حزبه يعتبرها «حراماً» وتتعارض مع الإسلام!

    فإن أراد البعض محاسبة المطلك على أفكاره أو ماضيه فلتمتد هذه المحاسبة إلى منافسيه جميعاً. نعم، فلتُفتح الملفات جميعها، إذ العراقيون يريدون أن يعرفوا مصير المخطوفين والمقتولين وهوية المسؤولين عن خطفهم وقتلهم، ومصير بلايين الدولارات المسروقة ومن سرقها، ومصادر تمويل عشرات الفضائيات الحزبية والشخصية التي انطلقت خلال السنوات الخمس الماضية، والأسس التي عُين بموجبها السفراء والمديرون العامون والمستشارون الموظفون الكبار، ولتبحث أيضاً علاقات بعض الأحزاب بدول أجنبية، وسبل تمويل هذه الأحزاب. إن فُتحت هذه الملفات، فسيكون المطلك أقل الخاسرين.

    خلال السنوات الأربع الماضية حقق المطلك شعبية كبيرة في المناطق الوسطى والغربية والجنوبية، والسبب هو وقوفه بقوة ضد التمييز بين المواطنين واهتمامه بالقضايا التي تهم العراقيين جميعاً وليس فقط أبناء طائفته ومنطقته، وصراحته وجرأته وتواضعه، مقارنة بسياسيين آخرين عزلوا أنفسهم عن الناس واتسمت تصرفاتهم ومواقفهم بالتكبر والعنجهية.

    لا يزال صالح المطلك يتصل بأصدقائه وزملائه بنفسه (وليس عبر مدير مكتبه أو سكرتيره الشخصي كما يفعل الآخرون) ويرد على هاتفه بنفسه وينصت كثيراً لمحدثيه ويحاول معرفة الحقائق من المتخصصين والمطلعين، على خلاف آخرين اعتقدوا أنهم أتقنوا علوم الأولين والآخرين بمجرد وصولهم إلى البرلمان أو الوزارة، متناسين أنهم وصلوا من طريق الطائفية والمحاصصة والمحسوبية، بينما وصل المطلك من طريق أصوات حقيقية لا تشوبها شائبة، ولولا التزوير لكان عدد مقاعد حزبه أكبر. مشاركة المطلك في العملية السياسية أعطتها وزناً وصدقية وشرعية وجعلت الناس يشعرون فعلاً أن هناك برلماناً وحرية وديموقراطية حقيقية.

    لا يمكن تصور العملية السياسية من دون المطلك، بل لا يمكن القول إن هناك ديموقراطية في العراق إن بقي موظفون مسيسون عُينوا في ظروف غامضة وقلقة يتحكمون بالعملية السياسية حسب الأمزجة والأهواء السياسية. «هيئة المساءلة والعدالة» الحالية لم يصادق عليها البرلمان، ولا يمكنها أن تأخذ موقعها «بالوراثة». هذه الهيئة تعبث بالبلاد والعباد منذ تأسيسها من قبل بول بريمر عام 2003. فهي تتهم الناس بتهم ليست فيهم ولأسباب سياسية أو أحقاد شخصية، ولم تعد تتمتع بتأييد الشعب. كما أنها أساءت إلى قانون «المساءلة والعدالة» الذي اختار البرلمان عدم تفعيله على رغم مرور عام ونصف على صدوره. رئيس هيئة اجتثاث البعث المنحلة، الدكتور أحمد الجلبي، عارض بشدة قانون المساءلة والعدالة حين صدوره وقال إنه أسوأ من قانون اجتثاث البعث، لكنه مع ذلك بقي رئيساً للهيئة الجديدة واحتفظ بالطاقم السابق.

    لا أتوقع أن يمر استبعاد المطلك من العملية السياسية بسهولة ولا أعتقد أن الأميركيين والأمم المتحدة والجامعة العربية والدول العربية ستقف متفرجة على هذا الانتهاك الواضح لقواعد اللعبة الديموقراطية. لن يستطيع أحد إخراج المطلك من العملية السياسية ما دام له مؤيدون، وسواء شارك في الانتخابات أم لم يشارك، فإنه سيبقى مؤثراً وأتباعه سوف يُمَثلون في البرلمان المقبل، شاء خصومهم أم أبوا. لقد ساعدت هذه الحملة ضد المطلك على تسليط الأضواء عليه وأكسبته تعاطف الشارع، وهذا يحمّله مسؤولية إضافية هو جدير بتحملها.

    من المؤاخذات على المطلك أنه لم ينتقد النظام السابق ولم يدن علناً جرائمه الكبيرة كالأنفال وحلبجة والمقابر الجماعية التي لا جدال عليها، وهذا خلل كبير عليه أن يصلحه في أول فرصة. أما البعثيون السابقون، الذين أثيرت كل هذه الزوبعة بسببهم فسيبقون قوة انتخابية لا يستهان بها وسوف يمنحون أصواتهم لمن يعاملهم كمواطنين محترمين متساوين مع الآخرين في الحقوق والواجبات، وليس لمن يميز ضدهم أو يحاول اجتثاثهم.

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/98110


أرسل إلى صديق تعليق
تصغير الخط تكبير الخط