غياب الثوابت الوطنية أضاع بوصلة العراق


سكاي نيوز عربية: 5 حزيران/يونيو 2022

الجدل في العراق محتدم على كل شيء، وتكاد لا تجد ثابتا واحدا بين العراقيين، وقد أصبح حتى الانتماء للبلد، الذي يعتبر ثابتا مقدسا في البلدان الأخرى، محل تساؤل عند شرائح محددة ربطت نفسها بدولة أخرى!

وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تعج بالبيانات والآراء المتناقضة والبرامج (الحوارية) الصاخبة التي عادة ما تنتهي باندلاع انتقادات حادة وخلافات أعمق من السابق بين (المتحاورين)، بل وحتى شتائم متبادلة وأحيانا عراك بالأيدي أو الكراسي.

ولكل فكرة أو قضية، حتى لو كانت تخصصية، كأن تكون اقتصادية أو طبية، متحمسون، لها أو ضدها! إنه حقا بلد الجدل العقيم الذي أضاع بوصلته ودفعه نحو مستقبل غامض، قد يقود إلى مزيد من الضعف، بل يخشى كثيرون أنه سيقود إلى تفككه، وتحوله إلى مشكلة إقليمية ودولية، إن مضت الأمور على مسارها الحالي، مع بقاء النظام الإيراني التوسعي متحكما به، اقتصاديا وسياسيا، عبر ميليشياته والجماعات السياسية والدينية الموالية.

آخر قضية أثارت ضجة ما تزال تتفاعل وتتعاظم، وتصدر حولها البيانات المتضاربة والمتفاوتة في حدتها وحماسها، اعتمادا على حجم الأسلحة التي يمتلكها أصحابها، هي ما دار في برنامج حواري في القناة الرسمية العراقية، الذي أبدى به أحد المتحاورين، وهو الكاتب والصحفي سرمد الطائي، المعروف بجرأته المتناهية في طرح أفكاره، أبدى رأيا انتقد فيه الدور الذي يلعبه رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي فائق زيدان، والذي اعتبره تدخلا في شؤون القضاء والمحكمة الاتحادية (لصالح جهات سياسية محددة)، مضيفا أنه مع باقي المثقفين “لن يخافوا من مذكرات اعتقاله” في التعبير عن آرائهم، بل إنهم كانوا قد تحدوا (خامنئي وقاسم سليماني من قبله)!

لا يخرج كلام الطائي مطلقا عن نطاق حرية التعبير عن الرأي التي كفلها الدستور العراقي، والرجل لم يُسِئ لأحد، ومثل هذا الكلام كان يقال أيضا عن رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، القاضي مدحت المحمود، الذي اُتُّهِم هو الآخر بمجاراة، بل حتى الانصياع، لإرادة الحكومة آنذاك، خصوصا عند إصداره حكما عام 2010 بشرعية تأسيس التحالفات السياسية بعد الانتخابات، والذي استفاد منه رئيس الوزراء حينها، نوري المالكي. ولكن ما يُسجَّل للمحمود، أنه لم يعترض مطلقا على الانتقادات الموجهة له، علما أنه لم يكن ناشطا في الفضاء العام، كما يفعل خَلَفُه الحالي، بل حصر نشاطاته في مجال القضاء فحسب، بينما أصبح فائق زيدان أحد الرموز العامة لكثرة ظهوره في وسائل الإعلام، وحضوره في اللقاءات السياسية والحكومية، واستقباله المسؤولين والسفراء الأجانب.

لكن ذلك البرنامج التلفزيوني، “المحايد”، أثار زوبعة من الاحتجاجات والبيانات المتضاربة من جهات عدة، بما فيها رئيس مجلس القضاء الأعلى نفسه، الذي أصدر بيانا اتهم فيه مقدم البرنامج، سعدون محسن ضمد، بأنه منحاز لرأي ضيفه “المتطرف”، سرمد الطائي، وأن له شخصيا موقفا سلبيا “متطرفا” من القضاء، الأمر الذي أدى في النهاية إلى إيقاف البرنامج، وإصدار مذكرة اعتقال بحق الطائي، الذي يعيش في أربيل، بسبب الضيق بالرأي الآخر في بغداد وباقي مناطق العراق، إذ كثُرت فيها مذكرات القبض والاستدعاء القضائية بحق الصحفيين وأصحاب الرأي الناقد، وفق قوانين النظام السابق.

ولا يمكن نسيان الاغتيالات التي طالت الناشطين والصحفيين وأصحاب الرأي الناقد خلال الأعوام الثلاثة الماضية، خصوصا الذين نظموا احتجاجات سلمية في مدن العراق المختلفة، إذ قُتل في ساحات بغداد والبصرة والناصرية والنجف وكربلاء وباقي المدن العراقية، ما يقارب الألف شاب وشابة، وخُطف حوالي 150 ناشطا، ولا أحد يعرف مصيرهم حتى الآن، وبينهم صحفيان يعملان في شبكة الإعلام العراقي الرسمية، وهما الكاتب والناشر مازن لطيف، سكرتير مجلس الأمناء في الشبكة، والكاتب والمؤرخ توفيق التميمي، مسؤول قسم المراسلين في صحيفة الصباح البغدادية. وكان المحتجون يطالبون بحكومة نزيهة وقادرة على حل مشاكل البلد، وغير تابعة لدولة أخرى. لكن الجماعات المسلحة المشاركة في الحكم واجهتهم بالرصاص بدلا من الاستماع إلى آرائهم وأخذها بنظر الاعتبار.

واللافت في هذه القضية، هو انضمام عدد كبير من رجال الدين إلى هذا الجدل، فأصدر 182 شيخا، بيانا يدينون فيه (بأشد عبارات الإدانة ما قامت به القناة الفضائية العراقية الرسمية باستضافة شخصٍ “منبوذ يعف اللسان عن ذكر اسمه” (كذا)، وفي برنامج أسمته (المحايد) وهو غير محايد، وسمحت لهذا المتفوّه (كذا) أن ينال من مقام المرجعية المقدس ومن القضاء العراقي الذي نتوسم به الخير، وتجرأ على عزة الشعب الكريم من خلال تجاوزه على الشهداء لا سيما قادة الانتصار المهندس “ولواء الإسلام العظيم سليماني”)، حسب نص البيان.

والحقيقة أن سرمد الطائي لم يشِر إلى المرجعية الدينية من قريب أو بعيد، لكنهم ربما يشيرون إلى الزعيم الإيراني، خامنئي، الذي يعتبرونه مرجعا دينيا لهم على الأكثر، وهذا واضح من وصفهم الجنرال السابق في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي قُتل في غارة أمريكية قرب مطار بغداد مطلع عام 2020، بأنه (لواء الإسلام العظيم)! بينما وصفوا الكاتب والصحفي والمثقف المعروف، سرمد الطائي، بأنه “منبوذ”، والحقيقة أن سرمد يتمتع بشعبية واسعة في الوسط الثقافي والصحفي والسياسي العراقي، لجرأته على قول ما لا يجرؤ على قوله كثيرون.

وفي المقابل أصدر مئات المثقفين والأكاديميين والصحفيين وأصحاب الرأي بيانات وأطلقوا تصريحات يحذرون فيها من انحدار العراق نحو الدكتاتورية ولجوئه إلى تفعيل قوانين النظام السابق من أجل تكميم الافواه، وأعلنوا تضامنهم مع الصحفييْن سرمد الطائي وسعدون محسن ضمد. لا شك أن معظم العراقيين يقفون مع حرية التعبير، ويناهضون التضيق على الرأي الحر الذي تمارسه القوى المرتبطة بإيران، مرة باسم الدين، ومرة باسم الحفاظ على تقاليد المجتمع وثالثة باسم المقاومة!

وبسبب هذا الوضع الغريب، أصبحت كل قضية تطرح في وسائل الإعلام تستقطب آراءً ومواقفَ متشددة، إيجابا وسلبا، من شرائح متعددة، بل ويتصدى لها بالنقد أو التأييد حتى الشعراء الشعبيون وشيوخ العشائر وغير المتخصصين.

قضية الاتفاقية مع الصين وطريق الحرير مثلا، أصبحت قضية رأي عام منذ سنوات عدة، علما أنها قضية اقتصادية حكومية بحت، لكنها أحدثت استقطابا في المجتمع، فدافع عنها بقوة من لا قِبَلَ لهم بالاقتصاد أو السياسة أو الحكومة، وبُثَّت حولها عشرات البرامج الحوارية، حتى أصبحت قضية سياسية يساندها المؤيدون لإيران، لأنهم يعتبرونها ضارة اقتصاديا بأمريكا، التي يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي 21 ترليون دولار! بينما يعارضها آخرون لأنهم يعتقدون بأن المضي بها هو انحياز غير مبرر للصين على حساب مصالح العراق ومستقبله، ورضوخ لإرادة النظام الإيراني الذي يريد أن يستخدم العراق كأداة في مشاريعه التوسعية وحروبه وتحالفاته الدولية.

ومن القضايا التي أثارت زوبعة من الاحتجاجات أخيرا مسألة تسرب أسئلة امتحان البكلوريا الوزاري إلى التلاميذ، وهذه الحالة تتكرر دائما، حتى في زمن النظام السابق، وكان يجب أن تُعالَج بطرق مبتكرة، عبر مناقشات جدية بين المتخصصين في التعليم، مستلهمين تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، وليس عبر التراشق بالاتهامات أو نظم القصائد (هذا بلد لو مهزلة …. الـ تنسرق بيه الأسئلة)!

الأنظمة التعليمية تطورت كثيرا في بلدان العالم المتقدمة، وكثير من المؤسسات التعليمية بدأت ترسل نصف الأسئلة للطلاب قبل أسبوع من موعد الامتحان، كي يطلعوا عليها ويستعدوا للإجابة عليها. وبهذه الطريقة تضمن المؤسسة التعليمية أن الطالب سيجتهد في تعلّم المواضيع التي تدور حولها الأسئلة، وفي الوقت نفسه فإنه سيسعى إلى تعلُّم مواضيع أخرى لأن معرفة نصف المواضيع لن يؤدي إلى نجاحه. من الضروري أن يسعى العراق لأن يختار أنظمة عملية حديثة تتلاءم مع أوضاعه وثقافته، بدلا من الإصرار على الأنظمة القديمة غير المجدية.

لا شك أن هناك تحولا ثقافيا وفكريا قد حدث في العراق خلال السنوات القلية الماضية، وهذا ما أشار إليه سرمد الطائي في حديثه التلفزيوني موضوع الجدل، فهناك الآن جمهور واسع يريد دولة مدنية عصرية ديمقراطية تعامل المواطنين على قدم المساواة، بغض النظر عن الدين والمذهب والقومية والمنطقة والتوجه السياسي. لكن القوى التابعة لإيران، التي تستنفر قواها هذه الأيام، لشعورها بالخطر الداهم، تريد أن تديم الوضع الطائفي الشاذ الذي شهده العراق خلال السنوات العشرين الماضية.

إن التيار الشعبي الجارف، المطالب بالحرية والتغيير، لا يمكن أن يُهزم عبر القتل والقمع والخطف، وقد جربت القوى الحاكمة هذه الطرق وفشلت، بل إن أحد أسباب اتساع هذا التيار هو الظلم البواح الواقع على شريحة الشباب، الذين يعانون من البطالة وغياب فرص التطور والتقدم، إضافة إلى نقص الحريات وانعدام الأمل.

وإن كان 182 شيخا قد أعلنوا (بفخر) عن تبعيتهم لإيران واعتبارهم قاسم سليماني (لواء الإسلام العظيم)، فإن هناك مئات آخرين من رجال الدين الوطنيين وملايين العراقيين الرافضين للتبعية لإيران أو أي دولة أخرى، يريدون عراقا مدنيا يرعى سكانه، ويكون مستقلا في قراراته السيادية وفاعلا في المجتمع الدولي، وليس تابعا لنظام محاصر ومنبوذ عالميا، ولم يقدم إنجازا لشعبه منذ مجيئه إلى السلطة غير التشدق بالدين وتشكيل الميليشيات خارج الحدود وإثارة القلاقل وخلق الازمات وجلب العقوبات الدولية على إيران وزعزعة استقرار المنطقة.

حميد الكفائي

 https://www.skynewsarabia.com/blog/1528404-%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%A7%D8%A8%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%94%D8%B6%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D9%88%D8%B5%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82