الحياة اللندنية- 15/2/2009
لا بد من نظرة متفحصة على نتائح الانتخابات العراقية الأخيرة لمعرفة أسباب عدم تبلور حركة وطنية عراقية علمانية حرة رغم وجود أرضية راسخة لها، خصوصا بعد تجربة الأحزاب الدينية والعقائدية والقومية الفاشلة. نتائج الانتخابات أبرزت أن أغلبية العراقيين يفضلون نظاما وطنيا معتدلا يتبنى وسائل علمانية منصفة في الحكم، لا تحكم على الناس من خلال المعتقد أو الالتزام الديني أو الأصل العرقي أو الموقع الجغرافي، بل من خلال الالتزام بالقانون والكفاءة في الأداء والنزاهة في التوجه والاخلاص في العمل.
 
لكن أكثر الناخبين صوتوا لقائمة رئيس الوزراء نوري المالكي، وقد يكون السبب أنهم أيدوا خطابه المعتدل وصدّقوا وعوده بمحاربة الفساد وإلغاء المحاصصة، ورغبته في تعديل الدستور وإقامة حكومة مركزية قوية، وأهم من ذلك كله أنهم آمنوا بقدرته على تنفيذ وعوده. إنهم ارادوا دولة مركزية قوية تلغي نظام المحاصصة وكل ألوان التمييز، الطائفي والعرقي والمناطقي، وتحارب المحسوبية والفساد، وتحافظ على المتاح حاليا من الحريات الشخصية، وتبقي على العراق العربي دولة موحدة قوية مع احترام خيار الشعب الكردي في إقامة فيدرالية يتمتع فيها بحقوقه القومية. ولكن لماذا لم يصوّت العراقيون مباشرة للقوائم العلمانية رغم كثرتها؟ من الواضح أنهم لا زالوا غير مقتنعين بقدرة القوائم العلمانية على التغيير، فالناخب لا يرغب أن يصوت لجهة سياسية يعتقد أنها عاجزة عن إحداث التغيير الذي ينشده. وعند غياب خياره الأول، فإن الناخب يمنح صوته للحزب الأقدر، في نظره، على تحقيق بعض طموحاته. الناخب في البلدان الديموقراطية يفكر مليا قبل أن يضع صوته في صندوق الاقتراع، فهو إن لم يقتنع بأن الحزب الذي يمثله قادر على الفوز، يصوّت لحزب آخر لأسباب تكتيتكية كأن تكون دوافعها منع الحزب الأكثر ضررا له من الفوز.
 
ولكن هل سيغير الناخب العراقي من توجهه الحالي إن رأى بديلا علمانيا قويا؟ نعم سيغير، لكن ذلك محدد بزمن آخذ في التقلص إن لم تسع الحركة العلمانية العراقية بكافة أطرافها إلى معالجة العلل الكامنة فيها التي قد تؤدي إلى إنهاء وجودها السياسي كليا، وهذا ليس بالأمر المستبعد. فليس هناك حركة علمانية ديموقراطية واضحة المعالم في البلاد العربية والإسلامية، وهي إن وجدت فهي هامشية أو تتخفى وراء مسميات أخرى. الحكم الإسلامي في إيران مثلاً لم يسمح ولو بقدر ضئيل للعلمانيين أن يشاركوا في الحياة السياسية، بل إن الدستور منعهم من المشاركة لأنه يشترط الايمان بنظام ولاية الفقيه، ولا يمكن تغيير الدستور لأنه اكتسب قدسية وشرعية تاريخية بعد مرور ثلاثين عاما على تطبيقه. وليس مستبعدا أن يحدث الشيء نفسه في العراق إذا ما استمرت الأحزاب الدينية في الحكم لفترة أخرى، إذ سيكون بإمكانها أن تغير الدستور لتحرم كل من لا يؤمن بالحكم الإسلامي من المشاركة، وعندها سينتهي الوجود العلماني في العراق كما في إيران.
 
ولا ننسى أن الإسلاميين الإيرانيين قد سمحوا في بداية حكمهم لأحزاب علمانية بالعمل، بما في ذلك حزب توده، لكنهم، وبعد أن استتب الحكم لهم عام 1983 حظروا العمل على الأحزاب الأخرى التي لم تتمكن حتى الآن من النهوض ولن تتمكن حتى يتغير الدستور.
 
لم يدرك العلمانيون العراقيون حتى الآن أنهم بحاجة إلى العمل معا، ليس لدعم توجهاتهم السياسية وبلورة أفكارهم وتكاملها فحسب، بل للحد من إضعاف بعضهم البعض عبر تشتيت جهودهم في التنافس في ما بينهم وإعطاء صورة مهلهلة إلى الناخب عن قدرتهم على قيادة البلاد. إنهم لم يتعلموا الدرس من الإسلاميين، الذين أثبتوا وحدهم أنهم قادرون على التوحد حينما تتطلب مصلحتهم ذلك.
 
وهناك الآن تجمعان علمانيان رئيسيان لا يختلفان كثيرا في توجهاتهما السياسية، وهما قادران على التغيير إن تغلبا على عوامل الضعف الكامنة فيهما. هذان هما القائمة العراقية الوطنية، بقيادة إياد علاوي وجبهة الحوار الوطني بقيادة صالح المطلك. القائمة العراقية هي أكبر التجمعات العلمانية العراقية التي ثبتت على خطابها ولم تستهوها شعبية الخطاب الديني إلا قليلا، مما دعاها لأن تستقطب شخصيات دينية في صفوفها كي تواجه القوائم الدينية، لكنها عانت من الانقسام وغادرها العديد ممن فازوا وبرزوا بأصواتها. كذلك فإنها لا تمتلك تنظيما متماسكا ولا جهازا إعلاميا فعالا يروج لقناعاتها التي تبنتها الآن الأحزاب الدينية. مشكلة القائمة العراقية. إن القائمة بحاجة لتنظيم شؤونها بشكل أفضل كي تكون أكثر تماسكا، واجتذاب شخصيات ملتزمة بنهجها، وأن لا تبقى تتمحور حول شخص واحد مهما علت منزلتُه. ورغم أهمية القائد لأي مشروع سياسي فالناخب بحاجة لأن يقتنع بأن هناك أيضا قادة آخرين أكفاء ينهضون بالمشروع معه، ونهجا واضحا وثابتا كي يتوجه نحوه ويتبعه. قيادة الدكتور علاوي مهمة جدا لتماسك القائمة لكنها يجب أن لا تكون المحرك الوحيد ونقطة الجذب الأولى والأخيرة.
 
أما التجمع الآخر فهو الذي اكتسب شعبية في مناطق كالأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل وبغداد. وبإمكانه أن يكتسب المزيد من التأييد في مناطق أخرى، لكنه بحاجة لأن يحدِّث خطابه الذي ظل متجاهلا للتغيرات الجذرية التي حصلت بعد 9/4، ومماثلا أحيانا لخطاب النظام السابق.
 
والمطلك يتمتع بكاريزما سياسية وخطاب وطني لم ينجر نحو التخندق الطائفي بل رفض المشاركة في الحكومة بوجود المحاصصة، وهذا يسجل له. كما برهن على قدرة سياسية كبيرة مكّنته من توسيع قاعدته الجماهيرية رغم أنها لا تزال مركزة في مناطق معينة وتحتاج لأن تتجه جنوبا كي تكتسب طابعا وطنيا.
 
العراق سيتغير كليا إن تمكن هذان التجمعان من توحيد جهودهما ودخول الانتخابات المقبلة في كتلة واحدة متماسكة تمتلك برنامجا سياسيا واضحا. ولم يعد هناك الكثير من الوقت أمام التجمعين، إلا أنه لا تبدو في الأفق أي ملامح لعمل وطني كبير، وهذا هو مأزق العلمانيين. إن فاتت الفرصة هذه المرة فسينتظر التجمعان أربع سنوات أخرى ستكون حبلى بمتغيرات قد تؤدي، مع زوال المؤثر الدولي، إلى ضياع الفرصة كليا أمام إقامة حكم مدني عصري في العراق.