لا أتذكر بالضبط متى تعرفت على الأستاذ أحمد الحجية لكن المؤكد أن هذا الرجل قريب مني منذ التقينا في لندن قبل ما يقارب العشرين عاما… كان يحضر معنا نشاطات المعارضة للدكتاتورية وكانت همومه وطنية لا تختلف عن أي عراقي آخر من الجنوب أو الشمال سوى بوضوح الرؤية. لم يصنف نفسه يوما إلا على على أساس وطني وإنساني. كان يحمل حسا وطنيا عراقيا متميزا، وقد ركز على النشاطات الرياضية إيمانا منه بأنها هي القادرة على توحيد العراقيين وإحياء الروح الوطنية فيهم. كنت أشترك معه بعدة صفات أهمها الحُلم بإقامة دولة عصرية في العراق، قائمةٍ على احترام الإنسان العراقي بغض النظر عن الانتماءات الفرعية الأخرى، وإن تعددت، فلا مشكلة في تعدّدِها طالما لا يأتي ذلك التعددُ على حساب الوطن… وعندما سقط النظام الدكتاتوري الغاشم، هرعنا أنا وأحمد إلى بغداد كي نشارك في بناء الدولة التي كنا نحلم بإقامتها… وفي بغداد كنا نلتقي باستمرار وكان يجمعنا الهم الوطني. قبل اختطافه بأشهر ذهبنا معا إلى بيروت (في مطلع شهر شباط من عام 2006) بهدف تشجيع فريق العراق الرياضي الذي ذهب إلى هناك لكي يلعب مع الفريق الوطني اللبناني في مباراة ودية. لم تكن الظروف الجوية مواتية لإقامة المباراة فألغيت. بقينا أنا وأحمد في بيروت عدة أيام وكنا نلتقي يوميا وأتذكر أنه ناقشني في رأي عبرت عنه ذات مرة في التلفزيون عندما كنت أحضر احتفالا ذا طابع فني إذ استغربت من اهتمام البعض بما يفرق العراقيين وهناك الكثيرُ الذي يجمعُهم. وقلت في كلمتي في ذلك الاحتفال إن العراقيين المختلفين سياسيا ودينيا وطائفيا وعرقيا ولغويا… عليهم أن يهتموا أيضا بما يجمعهم كالفن والموسيقى والرياضة والتراث والثقافة والتأريخ المشترك بالإضافة إلى الشيء الأهم وهو الوطن والمصير المشترك. قال لي أبو أسامة معلقا على كلامي هذا: إن الفن والثقافة والأدب تخضع للذوق وقد تعجب هذا ولا تعجب ذاك، لكن الرياضة هي النشاط الإنساني الوحيد الذي يَعبُر الحدود الطائفية والقومية والثقافية ويُجمِع عليه الناس كلُهم، وحتى أولئك الذين لا يهتمون بالرياضة هم يشجعون فريق العراق الرياضي عندما يتنافس مع باقي الفرق الرياضية. الكل يؤيد فريق العراق عندما يلعب مع دولة أخرى وعلينا أن نركز على النشاطات الرياضية كي ننمي الشعور الوطني العراقي… وأضاف أحمد: لقد عدت إلى العراق لكي أعمل من أجل الوطن الواحد الجامعِ لكل العراقيين…

غادر الوفد الرياضي العراقي إلى سلطنة عُمان ليلعب مع فريقِها الوطني، بينما عدنا أنا وأحمد إلى بغداد على نفس الطائرة. افترقنا في مطار بغداد لكننا اتفقنا على أن نلتقي في أقرب فرصة… أتذكر أننا تحدثنا عبر الهاتف على الأقل مرة واحدة قبل أن أغادر العراق كليا في أيار 2006، وأتذكر أنه أخبرني أنه يعاني من وعكة صحية ذلك اليوم. لم أخْبِره أنني سأغادر العراق لأنه ما كان ليوافق على ذلك… ورأيُه هو أن علينا أن نبقى في العراق مهما كانت الظروف لأن البلد محتاجٌ لنا.

 

كان أحمد يجمع بين المثالية في الأخلاق والمهنية والوطنية، وبين الواقعية في التعامل مع الأحداث على الأرض وفق المتاح والممكن. كان يسمو عاليا فوق الفوارقِ التي يهتم لها بعضُ بني البشر، وكان بسمو أخلاقه ونبله وسماحته وتواضعه، محبوبا من قبل الجميع. لقد سعى جاهدا وفي أحلك الظروف لأن يرفع شأن العراق عاليا وهذا هو في الحقيقة السبب الأول لتصديه لرئاسة اللجنة الوطنية الأولمبية العراقية في ظروف صعبة، فالنشاطاتُ الرياضية في رأيه تمثل قيم الإنسان العليا المجردة من التعصب والتحزب والانحياز إلا للوطن…

 

أحمد الحجية، أحمد عبد الغفور السامرائي، هو رمزُ الوطنية والإنسانية… هو رمز الشموخ والشجاعة.. وهو رمز التحدي والتفاني… ضحى في سبيل بلده في وقت اشتدت فيه الأنانية… وخاطر بحياته من أجل العراق في وقت تخندق آخرون قوميا وطائفيا ومصلحيا… الذين اختطفوه إنما اختطفوا العراق بكل ما فيه من خير ورقي… وأبرزوا وجها قبيحا لا يمت لقيمنا بصلة…

لا أدري من له مصلحة بتغييب شخص وطني مؤمن عمل طول حياته من أجل رفعة العراق وعلوِّ شأنه. وفي هذا الصدد أقول إن إهمال مسألة تغييب أحمد عبد الغفور السامرائي يرقى إلى مستوى المشاركة في الجريمة… لو عرفوا قيمته بحق لما سكتوا عن تغييبه!!! إنها مسئوليةٌ كبرى لا يستطيع أحد غير أجهزة الدولة أن يضطلعَ بها. فمن غيرُ الحكومةِ قادرٌ على تتبع المجرمين والقبض عليهم وإحالتهم إلى المحاكم؟

أبو أسامة رمز من رموزنا الوطنية وهو فخر لكل العراقيين… لن ننساه أو نسكت عن تغييبه مهما طال الزمن… هناك ملايينُ العراقيين من مختلف الأجيال والمناطق والأديان والمذاهب ممن تنبضُ قلوبُهم بحب أحمد الحجية وهؤلاء لن يسكتوا حتى يعرفوا حقيقة ما جرى يوم الخامس عشر من تموز من عام 2006 في قاعة المعهد الثقافي النفطي في الكرادة ببغداد. لن نهدأ حتى نعرف الحقيقة وحتى يُعاقَب المجرمون. تحية لأخي وصديقي ورفيق دربي الغائبِ الحاضر أحمد الحجية … ووعدا له أنني، بين كثيرين، لن أنساه … مذ غاب أحمد حتى يومي هذا، لم تغِب عني ذكراه العطرة، وإن نسيتُ فالصورةُ التي تجمعُنا والتي تحتلُ شاشةَ كمبيوتري لن تدَعَني أنساه… أنا هنا لا أرثي أحمد فهو، أينما يكون الآن، حي وحاضر بيننا بنبله وتضحياته ومساهماته القيمة وآثاره الطيبة… بينما يغيبُ كثيرون مع وجودهم جسديا بيننا.

تحية للسيدة نيران السامرائي التي لم تهدأ منذ خمسِ سنوات وهي تبحث عنه وتذكِّر بمحنته ومظلوميته… وما كتابُها الذي انطلق اليوم إلا ثمرة من ثمار هذه الجهود التي ستُثمر يوما في الكشف عن الحقيقة. ختاما أقولُ لكل فرد في الحكومة العراقية، ابتداء من السيد المالكي وانتهاء بأصغر مسئول:

صمتُكم المدوي أصم آذاننا

حميد الكفائي لندن – الثالث من تموز 2011