سنان الشبيبي: عاش متفائلا ومات حزينا

غادر الحياة قبل أيام الاقتصادي الدولي ومحافظ البنك المركزي العراقي الأسبق، الدكتور سنان الشبيبي، عن عمر ناهز الثمانين عاما، تاركا وراءه سجلا حافلا بالإنجازات والسمعة العطرة، عراقيا ودوليا.

تميز د. سنان بأخلاق رفيعة وتواضع جم، وكان متفائلا في أحلك الظروف، وحتى منظره، الذي يتميز ببشاشة وابتسامة دائمتين، كان يشعِر الآخرين بأن العالم يرفل بالخير والرخاء، وأن المستقبل زاهر ولا داعي للقلق، وهو أمر نادر بين الاقتصاديين الذين يتسمون عادة بالجدية وتجهم الوجه، ويبرزون في الأزمات، مطلقين الإنذارات ومحذرين من الصعوبات الاقتصادية الوشيكة.

ينتمي الشبيبي إلى عائلة عراقية معروفة من مدينة النجف، رغم أن أصولها تعود إلى قبيلة الشبيب في محافظة الناصرية، والتي تنتمي إليها أيضا عائلة السعدون المعروفة، التي سميت المحافظة باسم زعيمها ناصر باشا السعدون الشبيبي.

كان والده، الشيخ محمد رضا الشبيبي، شخصية دينية بارزة وشاعرا مرموقا، وقد أصبح وزيرا للمعارف ورئيسا للبرلمان في العهد الملكي، كما عُرف بالمثالية والالتزام بالمبادئ، لكن ذلك لم يعُقه من ممارسة السياسة والعمل بالممكن، بعيدا عن التشدد المبدئي. وعلى الرغم من الخلفية الدينية والقبلية لعائلة الشبيبي، إلا أن د. سنان وباقي أفراد العائلة نهجوا نهجا مدنيا علمانيا.

تعرفت على الدكتور سنان عام 1997 أثناء إلقائه محاضرة في لندن حول قضايا اقتصادية عالمية، ودور الأمم المتحدة في معالجتها، إذ كان حينها يشغل منصب كبير الاقتصاديين في وكالة “UNCTAD” الدولية أو (مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية)، التي كنت قد تناولتها بالنقد في مقال في جريدة الحياة، نشر قبل ذلك اللقاء ببضعة أسابيع، إذ ورد في تقريرها السنوي لذلك العام تحذير من مخاطر العولمة على العالم النامي.

وبعد انتهاء المحاضرة تقدمت للسلام عليه، وحينما عرّفته بنفسي قال مازحا (يا أخي ألم تجد مؤسسة أخرى تتناولها بالنقد غير “أنكتاد” التي ترعى مصالح الدول الفقيرة)! فأوضحت له الأسباب بأن العولمة تيار جارف ولا يمكن إعاقته والوقوف بوجهه لأنه صيرورة طبيعية للتطور العالمي، والأفضل لوكالة أنكتاد أن تجد حلولا عملية لمشاكل العالم النامي الاقتصادية وكيفية الاستفادة من العولمة، بدلا من إطلاق التحذيرات من مخاطرها.  

ظللنا على تواصل بعد ذلك اللقاء وتبادلنا أرقام الهواتف وأتذكر أنني أجريت معه لقاءً إذاعيا مطلع عام 2003، وأخبرني حينها بأنه لم يعد يعمل في الأمم المتحدة إذ كان قد أحيل على التقاعد أواخر عام 2001 بعد بلوغه الستين من العمر، كما تتطلب ضوابط الأمم المتحدة، وطلب مني أن أقدمه للمستمعين بصفته الشخصية.

وبعد إسقاط النظام العراقي عام 2003، عدنا إلى العراق، وأصبح د. سنان محافظا للبنك المركزي العراقي، وذلك لسمعته الدولية كخبير اقتصادي وإداري، كما ساعدت سمعة عائلته المرموقة أيضا على اختياره في تلك المرحلة القلقة التي تطلب فيها تطمين الشعب العراقي بتعيين شخصيات معروفة في المناصب المهمة.

وشاءت الصدف أن نقيم معا لعدة أسابيع في فندق برج الحياة، وكنا نلتقي يوميا تقريبا، هذا إضافة إلى اللقاءات الأخرى في الاجتماعات الرسمية، وأتذكر جيدا مساهماته القيمة فيما يتعلق بالعملة والسياسة النقدية العراقية الجديدة. كان حينها يؤكد على استقلالية البنك المركزي ويحذر المسؤولين من التدخل في شؤونه، أو حتى الحديث في القضايا النقدية والمالية لأنها حساسة ولا يجيد الحديث فيها غير المتخصصين.

بقي د. سنان محافظا للبنك المركزي العراقي لثماني سنوات، وفي عهده استقر سعر الصرف وصدرت العملة العراقية الجديدة وتراكمت احتياطيات البنك المركزي العراقي من العملة الأجنبية لتتجاوز 70 مليار دولار. وقد تمكن من الحفاظ على استقلالية البنك المركزي، فالرجل لم يكن سياسيا ولم ينحَز إلى أي جهة سياسية، بل كان عراقيا فحسب، ومهنيا يطبق الضوابط حسب مقتضيات المصلحة العامة.

كانت طموحاته كبيرة للدور الذي يجب أن يلعبه البنك المركزي في الاقتصاد العراقي، كما تفعل البنوك المركزية الأخرى في العالم المتقدم، وقد تعاقد مع المهندسة المعمارية العراقية المعروفة، زهاء حديد، لتصميم مبنى عملاق يليق بالبنك المركزي، وفعلا صممت زهاء حديد مبنى جميلا في منطقة الجادرية وسط بغداد، يرتقي إلى أرقى ما صممته من صروح في عواصم العالم المختلفة، وهو يوشك الآن على الاكتمال وسيكون أعلى وأجمل مبنى في العاصمة. 

لكن استقلالية د. سنان ومهنيته لم تروقا للسياسيين الجدد، الذين لا يعرفون كثيرا في الاقتصاد أو الشؤون المالية، ولا حتى السياسية، بل ولا يهتم كثيرون منهم سوى لشؤونهم الشخصية والحزبية وتعيين الأقارب والأتباع في مناصب الدولة، دون اكتراث لمعايير الخبرة والكفاءة.

وفي عهد رئيس الوزراء، نوري المالكي (2006-2014)، واجه د. سنان صعوبات جمة في إبقاء البنك المركزي مستقلا، فقد أراد المالكي أن يتحكم باحتياطي البنك المركزي، بينما رفض د. سنان أي تدخل في سياسة البنك النقدية، باعتباره هيئة مستقلة بنص الدستور، ولا يحق للحكومة أن تتدخل في رسم سياساتها، ولكن يمكنها أن تنسق سياساتها وفق رؤى البنك وتوقعاته للتنمية الاقتصادية، وهذا ما يحصل في العادة في الدول المتقدمة.

لكن المالكي كان مصمما على إزاحة كل من يعارض سياساته، ولم يكترث لأي اعتبار آخر، كاستقرار العملة أو النمو الاقتصادي، ولا حتى سمعة العراق الدولية وثقة الشعب في المؤسسات المالية. وبينما كان د. سنان في زيارة رسمية إلى اليابان، أصدرت إحدى المحاكم أمرا بإلقاء القبض عليه بتهمة اتضح بأنها كيدية وباطلة إذ برأته المحاكم بعد مغادرة المالكي السلطة، من أي فعل مخالف للقانون والضوابط، ما يعني أن القضية ضد الشبيبي كانت كيدية ومدبرة بهدف إبعاده عن منصبه.

ورغم كل ما تعرض له د. سنان من ضغوط وانتقادات من الجهات الرسمية حينها، فإنه لم يخرج عن طبيعته الهادئة وتوازنه المهني وسلوكه العقلاني، ولم يتهم مناوئيه بأي تهمة، بل كان يوضح موقفه فقط، ويبين الأسباب التي دعته لسلوك السياسات واتخاذ الإجراءات التي اتخذها.

لم يقتنع أحد من العراقيين أو غيرهم حينها بالتهم الموجهة للدكتور سنان، فقد كانت سمعته، وبقيت، ناصعة البياض ولا تشوبها شائبة. وقد انبرى مئات الكتاب والاقتصاديين والدبلوماسيين والمسؤولين للدفاع عنه، وكنت بينهم، وأتذكر اتصاله بي وتقديمه الشكر لي على موقفي، رغم أنني انتقدته لبقائه طويلا في المنصب، إذ كنت أتمنى لو أنه غادره بعد أربع سنوات أو خمس، خصوصا بعد تنامي الضغوط السياسية عليه، وتقدمه في السن.

آخر لقاء جمعني بالراحل سنان الشبيبي كان في أواخر عام 2015 في بغداد، وكان حزينا لما آلت إليه الأمور في العراق، قائلا إنه كان يمكن أن يكون التغيير عام 2003 بداية لعراق جديد، مستقر ومزدهر، ومساهم بقوة وإيجابية في الاقتصاد الإقليمي والعالمي، لكن الأنانية وسوء الإدارة وسوء النوايا لقادته الجدد، قد قادتهم إلى تخريب حتى الصروح والمؤسسات التي بناها السابقون، بدلا من تطويرها والبناء عليها. 

لم يكن د. سنان بحاجة إلى منصب محافظ البنك المركزي، فقد كان يعيش في جنيف، مكتفيا براتبه التقاعدي المجزي من الأمم المتحدة، ومستمتعا بحياته كخبير دولي يشارك في المؤتمرات التخصصية، ويقدم الاستشارات للمؤسسات والهيئات الدولية، لكن دوافعه الوطنية ورغبته في المساهمة في بناء دولة عصرية في العراق هي التي دفعته للمشاركة في النظام الجديد بما يملك من خبرة وسمعة دولية رفيعة.

 كان يمكن الحكومة العراقية أن تتعامل معه بطريقة تليق بمكانته الدولية المرموقة وسجله المهني الناجح، بالإضافة إلى مكانة عائلته المرموقة، حتى وإن اختلفت معه في السياسة النقدية، لكن الأمور في العراق تجري خلافا للمألوف والمعقول، وقد أصبحت ثقافة سائدة منذ عقود أن تنفي عن خصومك كل صفاتهم الحسنة وتشوِّه سجلهم المهني، وتتهمهم بتهم باطلة كي تعكر المياه وتخلط الأوراق من أجل تبرير المواقف المعادية لهم. لم تعد هناك فروسية في التعامل مع الآخر، ولا حتى الحد الأدنى من التعامل الأخلاقي مع الخصوم وأصحاب الرأي المخالف.

عانى د. سنان من عدة أمراض في السنوات الأخيرة من حياته ومنها مرض السكري ومشاكل في القلب، ثم مرض ذات الرئة، الذي أودى بحياته في النهاية. لكنه بقي نشيطا اجتماعيا وفكريا، وكان إلى عهد قريب يلتقي بأصدقائه أسبوعيا في منزله أو منازلهم، أو في مدينة جنيف التي يقطنها منذ أربعين عاما. كان نحيل القوام، لكنه كان عملاقا أخلاقيا ومهنيا.  

لم يكن تعامل حكومة المالكي المسيء للدكتور سنان الشبيبي مبررا وفق كل المقاييس، فقد كان يمكن أن تعرِض عليه الانتقال إلى موقع آخر، أو على الأقل الإحالة على التقاعد، كي يحتفظ بمكانته في المجتمع ويشعر بأن الدولة ثمَّنت جهوده وتفانيه في عمله. وعندما برأته المحاكم من التهم الكيدية الموجهة له عام 2015، لم تفكر حكومة حيدر العبادي بإعادة الاعتبار له، مثلما فعلت مع نائبه الدكتور مظهر محمد صالح الذي تعرض هو الآخر للإهانة والسجن غير المبرر، لكنه على الأقل عُيِّن مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء كرد اعتبار للاعتداء الذي تعرض له في حكومة المالكي.

لقد مات د. سنان الشبيبي، الوديع الخلوق أبو رضا، وفي نفسه حزن وخيبة أمل عميقان، من بلد بذل قصارى جهده في خدمته وإعلاء شأنه.    

 حميد الكفائي

https://alarab.co.uk/%D8%B3%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%BA%D8%AF%D8%B1-%D8%A8%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A