الحياة اللندنية-2007-02-21
نادرا ما كان الاختلاف الفكري أو العقائدي يوما مدعاة للحرب بين شعوب الأرض عبر التاريخ ولم نسمع أن حربا اندلعت لأن الزعيم الفلاني أو المفكر الفلاني يختلف مع آخر في رأي أو معتقد. لكن الحروب والمعارك تخاض عندما تنشأ حالة من التعارض في المصالح أو التنافس على الأموال أو السلطة أو النفوذ. التغالب، كما أطلق عليه عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي، لا ينشأ بسبب الاختلاف في الأفكار بل بسبب الخوف من فقدان المكتسبات للآخر، رغم أنها حالة متجذرة عند الإنسان البدوي، كما يقول الوردي إلا أن لها أسبابها السياسية والاقتصادية حتى في الحالات البدائية منها. اختلاف المسلمين في الرأي وتنافسهم في ما بينهم على مختلف الأمور كان قائما في عهد النبي محمد إلا أن وجوده كحكم مطاع من قبل الجميع قد منع من أن يتطور التنافس إلى قتال في عهده. إلا أنه، وسرعان ما توفي النبي، نشب الخلاف، الذي تطور إلى قتال في بعض الأحيان، بين المسلمين ولم ينته حتى هذه اللحظة. وبسبب كل ذلك التنافس على السلطة أو المال أو النفوذ، وليس الاختلاف في الرأي أو الاجتهاد الفقهي، قتل وشرد واضطهد الآلاف بل الملايين من الناس وتأخرت الأمة الإسلامية قرونا من دون أن تكون هناك مساع حقيقية لإنهاء هذه الحالة. فكم أراد النبي وأئمة الفقه من بعده أن يدربوا المسلمين على القبول بالآخر وكم من حديث يشجع على التفكير والتحقيق بل والاختلاف (اختلاف أمتي رحمة)؟ لكن كل هذه الدعوات والأوامر لم يلتزم بها القادة والمتنفذون المسلمون الطامحون إلى الغلبة وتحقيق المكاسب على حساب الآخرين عبر التاريخ.
 
وطيلة الأربعة عشر قرنا الماضية تطورت المدارس الفقهية وانتشرت وتعددت ولم تقع الحروب إلا عندما تكون هناك مخاوف من أن تكسب الغلبة فئة على حساب أخرى، وكلما أرادت فئة أن تتغلب على أخرى لجأت إلى الدين كي تبرر تجاوزاتها، وقد رأينا دولا وامارات تتحول عبر التاريخ من مذهب إلى آخر لأسباب أو مصالح سياسية واقتصادية. إن الصراع الطائفي لا يندلع لمجرد وجود اختلافات في الاجتهادات الفقهية أو الكلامية، لكن شرارة الصراع تنطلق عند وجود انقسامات أو منافسات سياسية تستند إلى معطيات طائفية، أو العكس، عند توفر انقسامات طائفية تستند إلى معطيات انقسام في الواقع السياسي.
 
ليست الاختلافات الفقهية بين المذاهب السنية الأربعة نفسها أقل من الاختلافات بين الشيعة والسنة، بل في بعض المواضع هي أكبر وأعمق، لكنها بقيت اختلافات فقهية وفكرية ولم تتطور إلى اقتتال لأنه ليس هناك من يخشى على وجوده من الآخر فلكل رأيه وموقفه وفي نهاية المطاف يسعى الجميع لصالح الدين والناس. غير أن الخلاف بين السنة والشيعة اتخذ منحى آخر منذ البداية، ومخطئ من يتصور أن أتباع المذهبين لم يقتتلوا، فقد حصل ذلك على مر التاريخ خصوصا عندما يكون الحكم في أيدي أتباع متشددين من هذه الطائفة أو تلك. ومنذ القدم سعى كثيرون من المسلمين «للتقريب» بين المذهبين لكن كل هذه المحاولات لم تفلح، لماذا؟ لأنها تسعى إلى أمر مستحيل وهو القضاء على التنافس بين الناس، وهذا أمر لا ضرورة له ولا جدوى منه لأنه قائم بين الإخوة والآباء والأبناء كما هو قائم بين الزملاء والأصدقاء والخصوم ولكن بدرجات متفاوتة وصور مختلفة.
 
الشعوب الأوروبية المسيحية تمكنت من ارساء التنافس بينها على اسس سليمة بعد حربين عالميتين طاحنتين، ومنذ ذلك الحين أصبح التنافس بين بلدان أوروبا وأميركا سلميا عن طريق تبني النظم الديموقراطية التي تمنع حدوث الحروب. وحسب دراسة حديثة فإنه لم تجر حرب بين دولتين يقوم فيهما نظام ديموقراطي حتى الآن. هناك خلافات واختلافات بين كل بلدان العالم وكل الفئات المجتمعية العالمية الدينية منها والاجتماعية والعلمية والأكاديمية والطبقية وغيرها، إلا أنها بقيت ضمن إطار الاختلاف في الرأي في معظم الأحيان، وتحولت إلى صراعات فقط عندما يكون هناك تنافس وخشية عند أحد الأطراف من غلبة الطرف المقابل عليه وإقصائه أو اجتثاثه.
 
مشكلة السنة والشيعة ليست فقط في التنافس أو السجال المذهبي الذي ظل قائما طوال أربعة عشر قرنا بل السعي لكسب مذهب على حساب الآخر. فقد رأينا سنة يتحولون إلى شيعة لينظر اليهم كأبطال وفاتحين عند كثيرين من الشيعة فتحتفي بهم مؤسسات شيعية هي في أكثر الأحيان أهلية. وتروج هذه المؤسسات لأفكارهم وآرائهم وكتبهم ويستقبلون في بلاد الله الواسعة ويلقون المحاضرات التي هي عبارة عن نقد إما للمدونات التاريخية لسيرة بعض الشخصيات المتبناة من قبل المذاهب الأخرى أو مقارنة فقهية بين المذاهب الشيعية والسنية وكيف يتميز هذا الفقه عن ذاك. وفي المقابل أيضا رأينا شيعة يتحولون إلى سنة وينتقدون آراء الشيعة وعقائدهم وعاداتهم ويلقون كل ترحيب وتشجيع وترويج من مؤسسات سنية رسمية أو أهلية.
 
لست باحثا في التاريخ الاسلامي ويقتصر اهتمامي به على تأثيره على حياتنا الحالية، فنحن ربما الأمة الوحيدة بين الأمم التي لا تزال تتنازع وتختلف وتقتتل على تفسيرات مختلفة للأحداث التاريخية، وهذه في الحقيقة كارثة حقيقية وتتطلب حلا ملحا. ولا أريد هنا أن أقدم رأيا في هذا الاتجاه أو ذاك، فكلا الاتجاهين محترمان بالنسبة لي، لكن يجب القول إن هذا المنحى الذي سارت عليه الأمور في البلاد الإسلامية هو منحى خطير ومدمر وهو الذي قادنا إلى ما نحن عليه في العراق اليوم ولا سبيل للخلاص من هذه الدوامة إلا إذا تخلى الطرفان، عن قناعة، عن الترويج لبعضهما البعض بين أتباع بعضهما البعض. ولا بد أن يسبق هذا العمل إدراك وقناعة تامة بأن مستقبل الطرفين متوقف على هذا التعايش مع الآخر والقبول به والامتناع عن مهاجمته بأي صورة من الصور. قد تبدو هذه الدعوة طوباوية أو ربما مستحيلة لكننا إذا ما نظرنا إلى الثمن الذي يدفعه الناس من الجانبين من حياتهم وممتلكاتهم وسعادتهم فإن هذه الدعوة تبدو ملحة وقابلة للتحقق. فكم إنسان بريء قتل في هذا الطريق خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة على الأقل، منذ أن تأجج هذا الخلاف التاريخي بعد نجاح الثورة الإيرانية، في كل من باكستان وأفغانستان والهند وإيران ولبنان والآن العراق؟ وكم رجل دين قتل من الجانبين وكم مسجد أو مركز ديني هدم أو انتهكت حرمته؟ وكم هي الجهود التي بذلت للتقريب والتحقيق والتوفيق والإقناع والتبشير والدعوة إلى هذا المذهب أو ذاك؟ ما الذي تحصل عليه المؤسسات الشيعية إن تحول شخص سني أو مئة أو ألف إلى التشيع؟ وما الذي تحصل عليه المؤسسات السنية من دحض هذه النظرية الشيعية أو تلك أو إقناع هذا الشخص أو ذاك ببطلان عقائد الشيعة؟ بل وما الذي يريد الطرفان أن يحققاه من هذه المساعي الحماسية الحثيثة المتسارعة لإثبات خطأ الآخر؟ كيف يهمل الفقهاء ورجال الدين من الطرفين إيجاد حل عملي وغير نظري لهذه المشكلة كي يوقفوا الاقتتال المتواصل بين الناس؟ ستبقى هذه المشكلة تلاحق الأجيال إن لم تقدم الجهات الرسمية الإسلامية من الجانبين على منع هذا الصراع الدائر على تفسير أحداث التاريخ القديم وتحصره بين المؤرخين فقط، وإن لم تتوقف الحكومات على الأقل عن دعم مذهب على حساب آخر. إن الحل ممكن وفي متناول اليد لو وجدت النية الصادقة في طي هذه الصفحة من التاريخ والتوجه نحو بناء المستقبل وتطوير الإنسان المسلم وجعله يعتمد الأساليب العلمية في التفكير والعمل بدلا من إيجاد المبررات التاريخية والفقهية للبقاء خارج عجلة التاريخ وإطار التقدم. ومثلما يوجد هناك انسجام ووئام ومحبة بين أتباع المذاهب السنية الأربعة والمذاهب الشيعية المتعددة التي لا تتنافس بينها ولا يشجعها أحد على التنافس، فإن بالإمكان أن يكون هناك سلام وقبول وتعايش بين السنة والشيعة في العراق وكل البلاد الإسلامية إن توقفت مساعي كسب الأتباع وإثبات خطأ الآخر عند الطرفين.

حميد الكفائي

http://international.daralhayat.com/archivearticle/159827