الفساد والعجز يؤجّجان الاحتجاجات في بلاد الرافدين


الحياة ٢٢ تموز\يوليو ٢٠١٨

الاحتجاجات التي تجتاح العراق حالياً لم تفاجئ المراقبين، وكان يمكن أن تحدث مبكراً، لكن الذي أخَّر حدوثها هو خطر الإرهاب الذي كان يتهدّد العراق إثر سقوط ثلاث محافظات بأيدي الجماعات الإرهابية، فانشغل العراقيون بمحاربتها. وبعد تراجع خطر الإرهاب، وانتعاش أسعار النفط التي تضاعفت خلال عامين، وتزايد الإنتاج إلى ما يقارب ٤ ملايين برميل يومياً، لم يعد هناك مبرر للسكوت على الفساد وتردّي الخدمات وانتشار البطالة.

وما أثار حَنَق الناس هو الاعتقاد السائد بتزوير الانتخابات الأخيرة بسبب «فوز» أحزاب وشخصيات فاسدة فيها. فعودة هذه الأحزاب إلى السلطة عبر تزوير الانتخابات أوصلت الناس إلى حالة من اليأس لا ينفع معها سوى الاحتجاج، لكن مواجهة الحكومة الاحتجاجات بالعنف لن تؤدي إلى إسكاتها، فالاحتجاج حق كفله الدستور، ووقوع ضحايا بين المحتجين سيقود إلى المزيد من الاحتجاجات والاستياء.

وكان كاتب السطور بين من توقعوا هذه الثورة، ولم يكن هذا التنبؤ ضرباً من الخيال، وإنما جاء نتيجة لقراءة موضوعية للأحداث. استغفال الناس وسرقة أموالهم والتمييز بينهم كان سيقود إلى هذا الاستياء الذي لن تنفع معه الحلول الترقيعية.

 

الطبقة السياسية الحالية لا تنتمي إلى عصرنا الحاضر، ومعظم قادتها لا يستمعون إلا إلى أنفسهم ومن يوافقهم الرأي. إنهم يعتبرون ما ينقله لهم أتباعهم المطيعون حقائق مطلقة، وهذا يشبه تماماً ما كان يسمعه صدام حسين من أتباعه وقادته العسكريين.

قادة العراق يسكنون في مدينة خاصة بهم تُسمى «المنطقة الخضراء»، لا تشبه أياً من مناطق العراق، فلا يدخلها الناس العاديون، إذ إن الدخول إليها يحتاج إلى ترخيص من السلطات العليا، وهذا الترخيص يخضع للتصنيف الطبقي، إذ توجد درجات عدة، فهناك الباج الأزرق، الذي لا يُفتَّش حامله أو من معه، وهو يُمنح لكبار المسؤولين. وهناك الباج الأخضر الذي لا يُفتَّش حامله شخصياً ولكن يُفتَّش من معه وتُحتجز هوياتهم عند نقطة التفتيش إن لم يكونوا مرخّصين، وتسلّم إليهم عند خروجهم، ولا يحق لهم الخروج إلا من المدخل الذي دخلوا منه، وهذا النوع من الباجات يمنح للمسؤولين من الخط الثاني. أما حملة الباجات الأدنى، فيُفتَّشون جميعاً ولا يحق لهم أن يصطحبوا أحداً معهم.

منتسبو الشرطة في المنطقة الخضراء يتمتعون بصلاحيات غير محدودة، وفي إمكانهم أن يفتشوا أو يهينوا حتى المسؤولين (غير المسنودين) ويصادروا مقتنياتهم إن كان لديهم اعتراض عليها، وقد رأيت هذا بعيني وأطلعت رئيس الوزراء عليه. أسعار البضائع والسلع والمنازل والإيجارات في الخضراء مرتفعة عما هي عليه في باقي مناطق بغداد، والكهرباء فيها لا تنقطع طوال اليوم، ويوجد فيها «مستشفى ابن سينا» الذي تضاهي خدماته الطبية ما هو متوافر في الدول المتقدمة. الشوارع فيها أنيقة ونظيفة وتنتشر فيها البحيرات والنافورات والأشجار الجميلة المنسقة.

أما باقي العراقيين، فيعيش معظمهم في ظروف صعبة، وتحديداً ذوي الدخل المحدود الذين يستخدمون الكهرباء (الوطنية) التي تنقطع عادة ١٢ ساعة في اليوم، خصوصاً في أشهر الصيف، أو الخدمات الصحية المتدنية، والذين يعتمدون على المساعدات الغذائية (الحصة التموينية) التي تقلصت بمرور الزمن، أو الذين يدرسون في مدارس الدولة التي يتسع الصف الواحد فيها أحياناً لأكثر من أربعين تلميذاً، بينما تستخدِم كل ثلاث مدارس مبنى واحداً في فترات مختلفة خلال النهار. هناك مئات الآلاف من العائلات التي تسكن بيوتاً مشيّدة من الصفيح أو أكواخاً غير لائقة ببني البشر في هذا العصر، خصوصاً في البصرة التي تنتج أكثر من ٨٠ في المئة من ثروة العراق، ومن هنا نفهم لماذا بدأت الاحتجاجات في البصرة.

البطالة منتشرة، فلا القطاع الخاص قادر على استيعاب الأعداد المتزايدة من الشباب العاطل من العمل، ولا الدولة قادرة على توظيف الجميع، لكنها قادرة على توظيف أتباع الأحزاب السياسية وأقارب المسؤولين في وظائف مجزية. فكل وزير يأتي بالمئات من أتباع حزبه وأقاربه ليعيّنهم في وزارته، وإن لم تكن هناك وظائف رسمية فيوظفهم بعقود موقتة. وبذلك، تحوّلت مؤسسات الدولة إلى تجمعات سياسية تهتف باسم الزعيم السياسي الذي يديرها، بينما بقي اللامنتمون خارج الوظائف ومن دون خدمات حقيقية، يحيون حياة بدائية في بلد يتمتع بثروات هائلة.

المشكلة الكبرى هي كثرة الأحزاب المشاركة في الحكومة، فلكل حزب وزارة أو وزارتان، وهو يستخدمها لتمويل نشاطاته وتوظيف أتباعه، الحاليين والمحتملين، والإنفاق عليهم. وتبرز هنا منافسة من نوع غريب، فالأحزاب التي تشكل عادة «لجاناً اقتصادية» لإدارة إيرادات الوزارات، تحاول الحصول على ما يمكنها من الأموال لأنها كلما زادت ثروتها أصبحت قادرة على كسب المزيد من الأتباع، لذلك تجد أن الأحزاب التي بقيت خارج الحكومة انقرضت كلياً. وهكذا بُدِّدت أموال الدولة الطائلة التي تتجاوز ١٢٠ بليون دولار سنوياً في فترات ارتفاع أسعار النفط، على نشاطات الأحزاب وطموحاتها في إزاحة منافسيها من السلطة.

العراق ليس في حاجة إلى كل هذه الأحزاب، ومعظمها مشكل على أسس طائفية أو مناطقية أو إثنية، ويقود واحدَها شخص واحد أو عائلة، وبعضها مرتبط بدول أخرى. المطلوب الآن تشريع قانون ينظم العمل السياسي، بحيث يقود إلى تشكيل أحزاب كبيرة عابرة للمناطق والطوائف، وقد يكون مناسباً فرض غرامة مالية على المرشح الذي لا يحصل على نسبة محددة من الأصوات تعادل ١٠ في المئة مثلاً من الأصوات المطلوبة للفوز. مثل هذا القانون سيقلص عدد الأحزاب، وبذلك تتقلص كمية الأموال المهدورة على النشاطات الحزبية، وتصبح لدينا حكومة ومعارضة بدلاً من ضياع المسؤولية بين أحزاب كثيرة.

كان العراقيون يأملون بحكومة كفوءة منصفة بعد زوال النظام السابق الذي بدّد أموالهم على التسلّح والحروب والقمع. لسوء حظهم وجدوا أنفسهم بين حيتان سياسية تنهب المال العام من دون أي وازع أخلاقي أو رادع قانوني. كثيرون بنوا آمالا بأن حيدر العبادي سيحسن الأوضاع أو يوقف التردي، لكنه لم يتمكن، فلم يبقَ أمامهم سوى انتزاع حقوقهم عبر الاحتجاج والعصيان المدني.

حميد الكفائي