الحياة، ٢٢ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧ 

حزب الدعوة الإسلامية هو الحزب الأيديولجي الوحيد في العراق الذي ينطبق عليه وصف «حزب»، إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي. أسسته مجموعة من رجال الدين الشيعة أواخر الخمسينيات كرد فعل على تراجع التدين وتناقص طلبة الحوزة الدينية إلى الثلث بين عامي ١٩١٨ و١٩٥٧.

ووفق مؤسسي الحزب ومنظريه، فإنه تأسس لمواجهة تنامي المد الشيوعي في الخمسينات، وكان هدفه «أسلمة» المجتمع، بينما يقول مقربون من الحزب إن هدف التأسيس هو تقليص هيمنة رجال الدين واحتكارهم للعلوم الدينية عبر جعل الدين في متناول الناس جميعاً، وهنا تكمن خشية رجال الدين الشيعة من الحزب، لأن انتشاره سيهمشهم ويسحب السلطة الروحية منهم.

ظل عمل الحزب تبليغيا، كما يشيرالاسم، حتى ١٩٧٩ عندما اضطره النظام إلى حمل السلاح خصوصا بعد صدور قانون تجريم حزب الدعوة في ٣١ آذار (مارس) ١٩٨٠ الذي قضى بإعدام أعضاء الحزب (وكل من سهَّل مهمته وبأثر رجعي)! وقد عوقب كل معارض للنظام وفق هذا القانون حتى وإن لم تكن له علاقة بالدعوة، وخسر الحزب أهم قيادييه وكوادره، بينما اضطر الباقون إلى الفرار خارج العراق.

لكن الحزب تمكن من إعادة تنظيم صفوفه في الخارج، وبقي عمله سرياً ولم يكشف قادته عن أسمائهم الحقيقية إلا بعد عام ٢٠٠٣ بل أن بعضهم، كإبراهيم الجعفري، لم يتمكن من إستعادة لقبه الحقيقي (الأشيقر) بسبب شيوع الاسم المستعار. ومما يسجل للحزب أنه بقي مستقلاً نسبياً في قراره السياسي، على رغم محاولات النظام الإيراني إضعافه بطرق شتى، منها شق صفوفه ودعم منافسيه، لكنه لم يخضع حتى في زمن الخميني. وقد وصفه مسؤولون إيرانيون ساخطون منه بأنه كمنظمة «مجاهدي خلق» في عدائه لولاية الفقيه! 

يسجل للحزب أن لديه نظاماً داخلياً متبعاً وقيادة هرمية تأتي عبر الانتخاب المباشر لأعضاء «مجلس شورى الدعوة» الذي ينتخبه الأعضاء المتقدمون في مؤتمر الحزب العام، لكنه تميز تاريخياً بعدم وجود زعيم محدد، فالقيادة دائماً جماعية وهناك ناطق رسمي يعبر عن مواقف الحزب، وكان إبراهيم الجعفري آخر من شغل هذا المنصب.

وفي ٢٠٠٧ استحدث الحزب منصب الأمين العام الذي فاز به نوري المالكي، وكان حينها رئيساً للوزراء، متفوقاً على إبراهيم الجعفري. لكن هناك شكوكاً حول شفافية آلية الانتخاب، إذ قال مشاركون إن الجعفري كان سيفوز لو كانت الآلية واضحة لدى الأعضاء. 

وما يميز الدعوة عن باقي الجماعات السياسية العراقية هو التنظيم والهرمية وحجم العضوية ومشاركة الأعضاء في اختيار القيادة عبر الانتخاب، على خلاف الجماعات الأخرى، حتى العلمانية منها، التي يقودها أفراد أو عائلات وتُتخذ فيها القرارات دون استشارة الأعضاء. ويتميز أعضاء الدعوة بالإنضباط والتدين الحقيقي، ولم يعرف عنه ممارسة العنف ضد منتقديه، كما أن ميليشيات الحزب (قوات الشهيد الصدر) قد حُلّت (رسمياً) بعد عام ٢٠٠٣، ولكن أعيد تشكيلها عام ٢٠١٤ مع باقي الميليشيات.

يتعرض الحزب لانتقادات واسعة ولا يخشى منتقدوه من التصريح بآرائهم، مهما كانت قاسية، لأنهم يعلمون أنه يتقبل الرأي الآخر (وإن على مضض)، بينما يمتنع النقاد من التعرض لجماعات سياسية أخرى لخشيتهم من أتباعها، فقد اغتيل ناشطون وصحافيون وأكاديميون بسبب آرائهم الناقدة، وفر بعضهم إلى الخارج. وعلى رغم أن الحزب شيعي، لكنه يسعى للإقتراب فكريا من السنة ويثقف أعضاءه بضرورة الإنسجام معهم وعدم استفزازهم.

لكن الحزب يعاني من نقص الشفافية إذ استمرت حالة السرية في نشاطاته على رغم أن ثلاثة من قادته شغلوا رئاسة الوزراء بالتتابع منذ عام ٢٠٠٥. فمؤتمرات الحزب ما زالت حكراً على كبار الأعضاء ولا يسمح لممثلي وسائل الإعلام بحضور الجلسات كي يطلعوا على المناقشات. كما إن ثقافة أعضائه السياسية ما زالت متدنية، مقارنة بثقافتهم الدينية، وهم لا يعلنون عن عضويتهم في الحزب ولا يدافعون عنه عندما يتعرض للاتهام بالفساد وانعدام الكفاءة.

يحتاج الحزب إلى أن يطور أفكاره السياسية ويجعلها ملائمة للعصر والواقع كما فعل حزب النهضة التونسي الذي تخلى رسمياً عن النشاطات الدينية وركز على السياسة، فهذه هي مهمة أي حزب سياسي. قيم الأمانة والنزاهة والصدق هي قيم إنسانية ودينية في آن، ويجب أن تكون دافعاً للأعضاء لتطوير عملهم السياسي، مع وجوب الابتعاد من تنصيب أنفسهم قيّمين على ضمائر الناس وأخلاقهم.

بقاء المالكي أميناً عاماً يشكل مأزقاً للحزب، وكان عليه أن يزيحه من الأمانة العامة بعد إزاحته عن رئاسة الوزراء عام ٢٠١٤. لكنه اضطر لترضيته بمنصب نائب رئيس الجمهورية مضحيا بحصته في الحكومة. لم يفسح المالكي المجال لقيادة جديدة بل ظل متمسكاً بتلابيب السلطة، يصدر التصريحات التي تتعارض مع سياسة الحكومة ويمارس ضغوطاً على الأعضاء. 

شعبية المالكي تدنت كثيراً بين العراقيين، لكن ما زال له مؤيدون داخل الحزب، وهذا تناقض مع رأي الشعب لا يخدم الحزب، خصوصاً أنه بدأ يتبرأ ممن طاولتهم شبهات فساد حتى قبل ثبوتها عليهم كما فعل عندما جمّد عضوية القيادي صلاح عبدالرزاق. من غير المرجح أن يبقى حيدر العبادي في رئاسة الوزراء بعد الانتخابات المقبلة، والرجل لا يبدو مكترثاً لبقائه في السلطة أو رحيله عنها. لم يتمكن العبادي من اكتساب صفة الزعيم الوطني على رغم تمكنه من دحر بؤر الإرهاب في مناطق عديدة، وتسييره شؤون الدولة تحت ظروف اقتصادية صعبة وتخفيف حدة التوتر الطائفي الذي فجرته سياسات سلفه. كما تمكنت حكومته من تحسين علاقــــات العـراق الدولية التي ساءت زمن المالكي، خصوصاً مع الولايات المتحدة والدول العربية. 

لم يمارس القادة العراقيون في شكل عام الإيثار السياسي، بل تجدهم متمسكين بالسلطة ساعين إلى توريثها لعائلاتهم، لهذا لم تنشأ أحزاب ديموقراطية حقيقية في العراق. وحزب الدعوة لم يشذ عن هذه القاعدة على رغم أنه تمكن من إقصاء عدد من قادته سابقاً، لكنه الآن في حاجة ماسة للتخلص من زعامة المالكي، لأن بقاءه لن يخدم الحزب بسبب سجله في الحكومة واعتماده على أقاربه وممارساته الفردية التي قادت العراق إلى الضعف والفشل. أحسب أن قيادة الدعوة ستفعل ذلك حينما تسنح الفرصة، لكنه لن ينصرف، بل سيشكل كياناً مستقلاً، ربما على حساب الحزب، لكن الأخير سيكسب شعبية فقدها بسببه.

 حميد الكفائي

 http://www.alhayat.com/Opinion/Hamid-Al-Kafaee/24192929/أي-مستقبل-لحزب-الدعوة-في-ظل-المالكي؟