“تيار الحكمة” حكيمي أكثر من “المجلس الأعلى”!

الحياة، ٦ أغسطس/آب ٢٠١٧

لم يكن في حسبان كثيرين أن “ينشق” عمار الحكيم عن “المجلس الأعلى” الذي قاده عمه ثم والده واستمد “شرعيته” وقوته من الإسم الديني لعائلة الحكيم. فالمجلس منذ سنيه الأولى تجمع سياسي تابع لعائلة الحكيم وكل من انتمى له سابقا أو لاحقا يعلم بهذه الحقيقة ولم يعترض عليها. تأسس المجلس عام 1982 كإطار جامع لكافة الفصائل الإسلامية العراقية المعارضة، وترأسه في بادئ الأمر محمود الشاهرودي لكنه سرعان ما ترك السياسة العراقية وانخرط في السياسة الإيرانية فأصبح رئيسا للسلطة القضائية. وعندما تولى السيد باقر الحكيم رئاسة المجلس انفرط عقده وتفرقت القوى السياسية المنضوية تحت لوائه ليتحول إلى كيان يدين بالولاء المطلق لعائلة الحكيم، واستمر على هذه الوتيرة على رغم تغيير اسمه ونهجه السياسي كي يتلاءما مع الظروف السياسية المتغيرة. لكن تطورات الأحداث في العراق جعلت المستحيل ممكنا، خصوصا وأن ثقة الناس بالسياسيين الحاليين قد تزعزعت بسبب الفشل والفساد.

أزمة “المجلس الأعلى” ليست جديدة بل كانت كامنة فيه وقابلة للإنفجار في أي وقت، وكان ذلك واضحا لدى المتابعين وقد أشار كاتب السطور إلى ذلك في مقال نشرته الحياة قبل أشهر. إن تبعية المجلس لعائلة الحكيم هي المشكلة الأساسية، فليس صحيحا أو ممكنا في هذا العصر أن يتحول حزب إلى أداة عائلية، وإن حصل هذا في ظرف معين فإنه غير قابل للاستمرار. قد يكون اسم العائلة السياسية مهما، كعائلة غاندي في الهند، وبوتو في باكستان وبابندريو في اليونان، وكندي وبوش في أمريكا، وترودو في كندا، وبيرون في الأرجنتين، ولكنْ، شريطة أن يكون هناك توجه واضح لخدمة الناس. المختلف هنا أن السيد محسن الحكيم كان مرجعا دينيا ولم يمارس السياسة، بينما حاولت جماعة المجلس الإستفادة من اسمه سياسيا، كما حاولت الاستفادة من أسماء المراجع الآخرين.

أسباب “انشقاق” الحكيم عن أتباعه القدامى ليست خافية على المتابع، فسمعة المجلس تدنت إلى الحضيض خلال السنوات المنصرمة بسبب أدائه السيء بكل المقاييس واستيلائه على ممتلكات الدولة وتدهور الخدمات في المحافظات التي يحكمها وتوزيعه المناصب العامة على الأتباع دون أي اكتراث للقانون أو المصلحة العامة. وبسبب هذا الإخفاق المريع، بدأ المتضررون من كبار الأعضاء يبحثون عن الأسباب، ومن يمكنهم أن يلوموه عليها. فاتجهت الأنظار إلى عمار الحكيم، الشاب الذي اختاره الشيوخ بمحض إرادتهم قبل ثماني سنوات إثر وفاة أبيه، آملين أن يستمروا في جني ثمار الاسم الديني لعائلته.

الحكيم حاول تجديد الحزب عبر إبعاد الحرس القديم لكنه استبدله بطاقمٍ موالِ له شخصيا، وهذا جوهر التذمر بين كبار الأعضاء الذين شعروا بالتهميش وهم المؤسسون. لقد برهن الحكيم أنه أكثر جرأة منهم عندما قرر التخلي عن الكيان القديم بكل مساوئه وأسس كيانا ظاهره جديد لكن محتواه قديم، وكأنه يقول للمؤسسين إن كل ما لديكم من سلطة ونفوذ ومال فهو منا آل الحكيم، لذلك، ليس لكم حق الإعتراض على قراراتي، فإن جزعتم من قيادتي فسأترك لكم مجلسكم الذي لن يساوي شيئا دون اسم عائلتي!

من الواضح أن “تيار الحكمة الوطني” مازال حكيميا بكل شيء وأوضح دليل على ذلك أن صور ثلاثة أجيال من آل الحكيم كانت تملأ قاعة الاحتفال عند إعلانه، بينما يتزعمه زعيم المجلس الأعلى (الحكيمي) السابق، وكل أعضائه هم من المجلس عينه. وفي يوم الإعلان، دخل الحكيم قاعة الاحتفال وحيدا وسط هتافات الأتباع (لبيك يا حكيم!) و(نعاهد نعاهد …عمار قائد)! وفي هذا دلالة كبرى بأن أهم ما في هذا التجمع هو الزعيم أما الباقون فأتباع مطيعون. وإن كان في “المجلس الأعلى” قدر من التشاور وبعض القادة من أهل الخبرة، فإن “تيار الحكمة” هو عمار الحكيم فحسب.

لم يُعرف عن العراقيين ولاءهم لعائلة سياسية، وأنا أميز هنا بين العائلات السياسية والدينية، وبين من يتكسب سياسيا بالدين، وهي ظاهرة جديدة في العراق، وبين من يمارس الدين مخلصا كعقيدة وإيمان. لم تتمكن أي عائلة سياسية من بسط نفوذها في العراق منذ تأسيس الدولة، على رغم محاولات بعضها تأسيس مثل هذا النفوذ عبر دفع أبنائها إلى المناصب السياسية وإضفاء الهالة عليهم. سياسيون كثر اختلقوا لأنفسهم تأريخا وبطولات لآبائهم وأجدادهم لكن ذلك لم ينطلِ إلا على قليلين.

وقد تفنن السياسيون المتشدقون بالدين في ابتداع الطرق لكسب المؤيدين والبقاء في السلطة، وأهمها استخدام موارد الدولة لتحقيق الثراء ومكافأة الأتباع والأقارب عبر التوظيف ومنح العقارات والتسهيلات التجارية والمكاسب المادية، فأصبح هدفهم الأول جمع المال وتوسيع النفوذ بطرق غير قانونية وغير أخلاقية، والثاني هو البقاء في السلطة بأي ثمن. لقد تحولوا جميعا إلى أثرياء خلال سنوات قلائل بعد أن كانوا لاجئين معدمين، والآن يمتلكون الشركات والعقارات والمحطات الفضائية ويتبعهم الآلاف من الباحثين عن مصالح أو مناصب، ولا من رادعٍ لهم.

هؤلاء لن يبنوا دولة ولن يخدموا الناس الذين أوصلوهم إلى السلطة لأن همومهم شخصية وعائلية بحتة. لا توجد أحزاب حقيقية في العراق اليوم، وإن وجدت، فهي سرية في عملها، ولا أحد يعرف كيف تُتّخذ القرارات أو تُصاغ السياسات أو تموَّل النشاطات، وهل هناك انتخابات داخلية ووِفْقَ أي نظام، وحسب أي معيار يتصدر القادة المواقع أو يتخلون عنها. رئيس هيئة النزاهة يعترف بوجود لجان اقتصادية في الوزارات تقوم بجمع الأموال للأحزاب وقادتها لكنه عجز عن العثور على الدليل لإدانتها لأنها أصبحت متمرسة في جمع الأموال والتلاعب بالقوانين.

السياسة بالنسبة لمعظم قادة العراق الجدد تقوم أولا على جمع المال من موارد الدولة المتاحة لهم باعتبارهم مسؤولين (مؤتمنين) عليها وثانيا على الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن من اجل كسب المزيد من المال واستخدامه لحماية أنفسهم عبر تقديم الرشى والتهديد بالخطف أو القتل عبر المليشيات المسلحة. المسألة إذاً ليست كيف يمكن خدمة الناس، بل كيف يمكن استغلال المنصب والبقاء فيه. احسب أن هذا الوضع غير قابل للاستمرار وأن ثورة جبارة تلوح في الأفق ستكتسح هؤلاء الفاسدين إن لم يسارعوا إلى فسح المجال لطبقة سياسية جديدة.

حميد الكفائي 

http://www.alhayat.com/Opinion/Hamid-Al-Kafaee/23272570/%C2%AB%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9%C2%BB-%D8%AD%D9%83%D9%8A%D9%85%D9%8A-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D9%84%D9%89%C2%BB!