عثرت بالصدفة قبل عدة أيام أثناء بحثي في الفيس بوك على منشور للأخ أحمد الركابي، مدير التلفزيون العراقي الأسبق، يتحدث فيه عن شبكة الإعلام العراقي وأنه هو الذي اسسها وهو الذي عين حميد الكفائي فيها!!!!

وعلى رغم أنني لا ارد على الادعاءات إلا مضطرا، ولا يهمني من قريب أو بعيد من هو الذي أسس شبكة الإعلام العراقي، إن كان هناك مثل هذا الشخص، ولكن آثرت أن أوضح دوري في هذه العملية لمن يريد أن يعرف التفاصيل.

ابتداء، انا لم ادعِ، ولن أدعي يوما أنني أسست شبكة الإعلام العراقي لأنني لم أؤسسها وإن من أسسها هم الأمريكيون، وهم الذين مولوها وعينوا كل من عمل فيها ابتداءً، واترك لغيري أن يدعي ما يشاء. لكن المستغرب أن هناك من شهد للأخ الركابي بالتأسيس وهو لم يكن يعمل في الشبكة ولا يعرف عنها الكثير! ولا اعرف كيف تسنى له معرفة المؤسسين عن بعد! ولا استغرب أن كثيرين من الذين شهدوا للأخ أحمد بالتأسيس كانوا يحملون لقب (الركابي)! وهذه تكفي لشرح بعض ما حصل.

مرة أخرى أقول إنني لم أؤسس الشبكة، رغم أنني شاركت في ذلك، ولو كنت مؤسسا لها لما افتخرت بهذا (التأسيس) لأن الشبكة فاشلة منذ اليوم الأول وحتى الآن رغم كل الجهود التي بُذلت لإصلاحها والأموال التي أنفقت عليها (100 مليون دولار في العام تقريبا)، لأن الأسس كانت خاطئة في رأيي وهذا هو سبب مغادرتي إياها بعد خمسة أسابيع فقط من العمل فيها. ليس هناك فخر في تأسيس هذه الكارثة الكبرى ولو كنت مسؤولا عنها اليوم لنصحت الحكومة ببيعها إلى القطاع الخاص فهذا هو الحل الوحيد لها كي تنجح وفي خلاف ذلك سوف تبقى عليلة وفاشلة كما هي اليوم رغم أنها تحسنت كثيرا عما كانت عليه قبل عشر سنوات…

ومنذ استقالتي من الشبكة في 22/5/2003 لم اتحدث عنها إلا باقتضاب شديد وعندما أُسأل فقط، وما كنت لأتحدث في المقابلة التي أجراها معي الأخ عماد العبادي في قناة البغدادية في برنامج (سحور سياسي) في رمضان عام 2015 لولا إلحاحُه الشديد وقد قلت إنني عملت مذيعا علما أن ذلك كان أحد واجباتي… 

الشبكة ليست ملكا شخصيا لأحد كي يعين فيها من يشاء، رغم أن بداياتها كانت فوضوية وربما جيء بأشخاص لم يكونوا مؤهلين للعمل الذي كلفوا به، وقد أكون أنا أحد هؤلاء، ولكن لم يكن احمد مديرا للشبكة يوما من الأيام، لا في البداية ولا النهاية. ربما كان هذا طموحه لكنه لم يحققه للأسف لأن أول مدير للشبكة هو الست شميم رسام وخلفها في الموقع المرحوم جلال الماشطة.

هناك شهود على تلك المرحلة منهم الدكتور علاء فائق والأستاذة شميم رسام والأستاذ اسماعيل زاير والأستاذ علي الأوسي والأستاذ عودة التميمي والأستاذ فالح حسون الدراجي وآخرون. والركابي لم يعين لا أنا ولا شميم رسام ولا علاء فائق ولا إسماعيل زاير لأننا أصلا كنا الفريق الذي ناقش فكرة تأسيس الشبكة في واشنطن في شباط 2003. ثم أننا لم نكن نبحث عن وظائف كي (يعيننا) فلان أو علان فكل منا كانت له وظيفة مرموقة في البلد الذي جاء منه، فأنا كنت أعمل في البي بي سي وأكتب في جريدة الحياة، وعلاء فائق كان يملك شركة عقارات ناجحة، وشميم كانت تعمل في مؤسسة أي أن أي وإسماعيل زاير كان يعمل في جريدة الحياة. نحن جئنا للمساهمة في بناء مؤسسة إعلامية تليق بالعراق الديمقراطي، أو هكذا ظننا حينها ولو عاد بنا الزمن لربما كانت لنا مواقف أخرى، وأنا بالتأكيد كان سيكون لي موقف آخر.

صحيح أن الأمريكيين كلفوا أحمد بالاتصال ببعض الأشخاص للتعيين في الشبكة، ربما لأنه كان سبقنا ببضعة أيام أو أسابيع للعمل في المشروع، فقد كان يعمل أساسا في مؤسسة أمريكية وهي إذاعة العراق الحر، وكذلك الست شميم رسام، بينما تأخر الآخرون بسبب انشغالاتهم في أعمالهم الأخرى. لقد اتصل أحمد فعلا بعدد من الذين كانوا يعملون في إذاعة العراق الحر تحديدا ونصح بتعيينهم وقد عينوا فعلا، أما الآخرون فلا شأن له بهم اصلا وهو يعلم ذلك علم اليقين.

إن الذي أسس الشبكة هم الأمريكيون، وقد دعونا أنا وعلاء فائق واسماعيل زاير وشميم رسام وأحمد الركابي وسيامند عثمان للتشاور معهم حول الموضوع وكان ذلك في واشنطن في شباط 2003 أي قبل سقوط النظام بشهرين على الأقل. لم تكن الشبكة تابعة لأحد ولا حتى للأمريكيين الذين أسسوها، بل كان مخططا لها أن تكون تابعة للدولة العراقية ومستقلة عن الحكومة استقلالا تاما. نحن الستة اجتمعنا مع مدير إذاعة صوت أمريكا السابق، روبرت رايلي، الذي كان يعمل مستشارا إعلاميا للإدارة الأمريكية ثم نائبا لجي غارنر، وطرح كل منا أفكاره وتصوراته لما يجب أن يكون عليه الإعلام العراقي بعد الإطاحة بالنظام، وانتهى الأمر وعاد كل منا إلى بيته. 

وبعد شهر تقريبا من ذلك الاجتماع اتصل بي روبرت رايلي، كما اتوقع أنه اتصل بالآخرين، وطلب مني أن أعمل على تأسيس الشبكة التي سينطلق بثها ابتداء من الكويت. وكانت الإدارة الأمريكية قد كلفت شركة “أس أي آي سي- SAIC” بإدارة الشبكة. ثم اتصل بي بعد ذلك مايك فيرلونغ، المدير في SAIC المكلف بإدارة مشروع شبكة الإعلام العراقي، وطلب مني أن أكون جزءا من عملية “النهوض بالإعلام العراقي” وهذا التعبير له. وبعد تردد لأسبوع أو أسبوعين وافقت على المقترح وسافرت إلى الكويت يوم 13/4/2003، والتقيت هناك بالأسماء المذكورة أعلاه وآخرين.

التقيت يوم 14/4/2003 بكل أعضاء الفريق الذي كان قد بدأ عمله قبل وصولي وكان بينهم كويتيون وعراقيون مقيمون في الكويت. وفي اليوم التالي (15/4/2003) ذهبنا إلى العراق لأول مرة أنا والدكتور علاء فائق والأستاذ اسماعيل زاير وزرنا معدات وأجهزة الاستقبال والإرسال التابعة للإذاعة في أم قصر وأصدرت لنا منظمة (ORHA) التي كان يترأسها الجنرال جي غارنر، باجات تعريفية ثم عدنا في المساء.


وفي يوم 16/4/2003 ذهبنا أنا ود. علاء صباحا إلى مقر العمل في فندق (غني بلاص) والتقيت هناك بروبرت رايلي ومايك فيرلونغ وباقي أعضاء الفريق الذين كانوا يقيمون في الفندق. لاحظت أن أحمد الركابي كان يتصرف وكأنه هو المدير فهو يأمر هذا ويزجر ذاك وما إلى ذلك. 
سألت روبرت رايلي عن دور أحمد في العملية وإن كانوا قد عينوه مديرا، فقال لا لم نعطِ احدا منصبا حتى الآن ولكن اعتمدنا على أحمد في تدبير الأمور مؤقتا…

كان الوضع أشبه بفوضى، إذ لم يكن أحد يعرف ماذا عليه أن يفعل وما هو دوره الحقيقي… قلت لروبرت رايلي، الذي كنت قد تعرفت عليه قبل عام من ذلك التأريخ في إحدى زياراته إلى لندن، إن كانت الأمور تدار هكذا فلا مكان لي بينكم، وأنا سأغادر الكويت غدا لأنني لن أعمل في ظل هذه الأجواء غير المهنية، بل وغير الطبيعية، فأنا لدي خبرة في الإدارة والإعلام وجئت من البي بي سي حيث تعلمت الأسس المهنية للعمل الإعلامي وقبلها كنت مديرا ورئيس تحرير مجلة وباحثا اقتصاديا ورئيس تحرير نشرة اقتصادية اسبوعية، ولن اسمح لنفسي، بل لا استطيع، أن أعمل في ظروف كهذه. وقد قررت فعلا العودة من حيث أتيت في اليوم التالي.  

ألح علي رايلي أن أتريث قليلا وامهله حتى اليوم التالي كي يتخذ قرارا تنظيميا بهذا الشأن، وقد قلت له بوضوح والدكتور علاء فائق أطال الله في عمره يشهد لأنه كان معي دائما إذ كنا نقيم معا في فندق كارلتون: إن اردتم أحمد الركابي أن يديرها فأنتم أحرار وهذا قراركم لكنني لن أعمل معه مطلقا خصوصا بعد ما رأيت تصرفاته التي لا تنم عن خبرة تذكر في الإدارة أو الإعلام. لم يكن بيني وبين أحمد في تلك الفترة أي خلاف على الإطلاق كما إن الرجل كان يحترمني كثيرا لكنني لاحظت أنه لم يكن سعيدا بمجيئي وكان ذلك واضحا على تصرفاته، ربما لأنه لا يستطيع أن يتصرف معي كما كان يتصرف مع آخرين ممن جاء بهم إلى العمل. 

لم اسعَ لأن أكون مديرا ابدا، فهذا ليس مهما في العمل الإعلامي، بل كنت دائما اتجنب هذا الدور لما فيه من إزعاج وأعباء ومسؤولية عن عمل الآخرين، وكنت سأعمل تحت إدارة علاء فائق أو شميم رسام أو إسماعيل زاير أو أي شخص مهني آخر. بل كنت قد عملت تحت إدارة أشخاص أقل مني خبرة وأصغر مني سنا ولم أجد في ذلك حرجا. وكما أسلفت، فلم يكن لي أي خلاف مع أحمد لا سابقا ولا حاليا، ولم نختصم يوما على شيء، بل كنا متواصلين منذ مجيئه إلى لندن من السويد كمراسل لإذاعة العراق الحر عام 1999 على ما أتذكر وكنت أراه في اللقاءات العراقية يجري مقابلات مع العراقيين لإذاعة العراق الحر. وقد كان يتصل بي احيانا وكنا نتحدث هاتفيا بين الفينة والأخرى. وأضيف أنني ربما كنت سأوافق على العمل معه وفي ظل إدارته لو لم أرَ تصرفاته في اليوم الأول مع الآخرين، إذ أدركت حينها أن العمل معه مستحيل بالنسبة لي على الأقل.

العمل الإعلامي يقوم على الإحترام لأسس المهنة، فكل صحفي مهني هو مدير لعمله وإنتاجه الصحفي ولا يحتاج أن يتدخل في عمله شخص آخر، حتى لو كان مديره، إلا عند الضرورة القصوى وفي حالة وجود خلل حقيقي يتعارض مع ضوابط العمل، أو عندما يطلب هو المشورة من رؤسائه.

وفي مساء اليوم التالي اتصل بي رايلي وكنت في فندق كارلتون وقال لي لقد قررنا أن تكون أنت مديرا للأخبار والبرامج السياسية، وهي كل شيء تقريبا في الشبكة في تلك الفترة، وإن هذا هو القرار الصائب لأنه يتناسب مع خبرتك وعمرك. فسألته ماذا عن أحمد الركابي؟ فقال سوف نرسله  إلى العراق ليزودنا بتقارير للإذاعة من هناك! وهذا كلامه نصا. وفي اليوم التالي ذهبت إلى مقر العمل وقد أعلن رايلي هذه التغييرات في اجتماع ضم الجميع. بدأت العمل والأخوة جميعا يعرفون ذلك ولم أرَ أحمد الركابي أو أتحدث معه مطلقا منذ 16 نيسان 2003 لأنه ذهب إلى العراق مع اسماعيل زاير الذي كُلف بتأسيس جريدة رسمية للدولة، وهي جريدة الصباح الحالية، التي اصبح مديرها ورئيس تحريرها. 

أكرر لم أتحدث مع أحمد أو أره منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة وما ذكره بأنني سألته عن وجود (اللوندري) في العراق هو محض افتراء وأحسب أنه يقصد الإساءة لي، فأنا لم أكلمه أصلا، وما كنت لأحتاج إلى هذه الخدمة فأهلي وأقاربي موجودون في بغداد والبصرة والناصرية والسماوة والديوانية والحلة والنجف وكربلاء وحتى كركوك. أنا ابن الرميثة وقد عركتني الشدائد والمحن والحياة الصعبة ولا اهتم لتوافه الأمور ولم أخشَ من شيء يوما ولم اتردد في الإقدام على ما اراه صحيحا، مهما كان الثمن. وأنا صحفي متمرس ولست مترفا كي يهمني (اللوندري) وقد سافرت إلى دول كثيرة في مهام صحفية! عشت في السودان لأكثر من عام وفي ظروف لم تكن مثالية، وفي جوبا سكنت في كرفان لا تتوفر فيه الخدمات الأساسية، وعشت في بغداد لثلاث سنوات في كرفان لا تتوفر فيه حتى مغسلة وتنقطع عنه الكهرباء لسبع ساعات متواصلة في اليوم ولم اضعف أو أتململ ابدا.

عملت ناطقا رسميا لمجلس الحكم والحكومة العراقية الأولى وكنت اتنقل بين القنوات الفضائية ووسائل الإعلام بالتكسي ولم اهتم لسلامتي يوما وتعرضت لمحاولات اغتيال واختطاف ونجوت منها بأعجوبة وهناك شهود على على كل هذه الأحداث. وأقول على حساب تواضعي أنني لم أكن أتوقع أن أبقى حيا وقد كتبت وصية قانونية في بريطانيا قبل مغادرتي وعندما ودعت أطفالي في المطار لم أكن أتوقع أن أراهم مرة أخرى. وقد قال لي الصديق سامي فرج علي عندما جئنا لنقترع معا في المركز الانتخابي في لندن في الانتخابات الأولى في يناير عام 2005، إن بقائي على قيد الحياة كان أعجوبة وهو أهم إنجاز لي! لأنني كنت أعمل في بيئة معادية تماما ولم أكن جزءا من حزب أو مجموعة سياسية ولم أكن ثريا كي أتمكن من حماية نفسي!

وبينما كنت أنا أشرف على الأخبار والبرامج السياسية والمقابلات الإذاعية، كانت الست شميم رسام تتولى المسؤولية الإدارية للشبكة وقد تعاونت معي لاحقا في قراءة نشرات الأخبار رغم أن ذلك لم يكن من واجباتها. الدكتور علاء فائق كان يعد ثلاثة برامج وكنت انا أقدمها بالإضافة إلى المقابلات التي كنت أجريها مع السياسيين والمفكرين والخبراء العراقيين الذين كانوا يتقاطرون على الكويت في طريقهم إلى العراق. وقد كان د. علاء خير معين ومستشار لي وللآخرين جميعا، وبسبب سمو أخلاقه واتساع ثقافته وتواضعه الجم المنقطع النظير، فقد كان محبوبا وصديقا للجميع ومؤثرا فيهم وكنت أتمنى أن يكون هو دون غيره مديرا عاما للشبكة فقد كان متسامحا إلى حدود لم يألفها العراقيون. وكانت الست شميم مديرة ناجحة للشؤون الإدارية وبسبب خبرتها الطويلة فقد استوعبت الجميع ولبت طلباتهم.

كما كنت أشرف أيضا على استعراض الصحافة التي كان يقدمها الأستاذ صادق الركابي (أخ أحمد) بالإشتراك مع الست إيمان حسين، وكذلك اراجع تقارير المراسلين قبل بثها، وكنت أعمل 12-13 ساعة يوميا تقريبا. وفي يوم 21/5/2003 عقد المدير الفرعي للشركة الأمريكية التي تدير شبكة الإعلام (SAIC)، مايك فيرلونغ، وهو ضابط سابق في الجيش الأمريكي له خبرة فنية في تركيب وتشييد أجهزة البث والاستقبال، عقد اجتماعا عاما لكل المعنيين بشؤون الإعلام، بمن فيهم الفنيون، وكان قد قدِم للتو من العراق. كان كلامه غير منطقي بل كان استفزازيا إلى حد بعيد إذ قال (ولاؤكم يجب أن يكون لي والذي لا يعجبه سأقيله وأعين شخصا آخر محله بمئتين وخمسين دولارا)!!! وبعد أن انتهى من حديثه، تحدثت أنا وقلت له إنني لست مواليا له أو لغيره فأنا صحفي مهني وقد جئت هنا لخدمة بلدي فحسب. اختلفت معه جذريا حول أسلوب العمل خصوصا وأن أسلوبه في الحديث معنا كان فظا واستفزازيا، وبعد أن قلت رأيي بقوة ووضوح، خرجت من الاجتماع قبل انتهائه، وذهبت إلى مقهى الفندق وبدأت بكتابة استقالتي.

وأثناء ما كنت جالسا في المقهى رآني المرحوم حسين الركابي (والد أحمد) الذي كان يعمل مستشارا حينها، وقال لي كلاما حكيما ما زلت اتذكره نصا: (ارجو منك ألا تتخذ قرارا وانت غاضب لأنه سيكون خاطئا. انتظر إلى يوم غد واتخذ القرار). قلت له يا ابا احمد، العمل مع الامريكيين يبدو صعبا وهذا الرجل الذي نصبوه مسؤولا علينا هو ضابط سابق ولا يفقه شيئا في الإعلام باستثناء الشوؤن الفنية واللوجستية، وانت سمعت ما قاله ورأيت عنجهيته وفظاظته بنفسك. مع ذلك فقد أخذت بكلام أبي أحمد وانتظرت حتى اليوم التالي وهو اليوم الذي اصدرت فيه الأمم المتحدة القرار 1483 باعتبار العراق بلدا محتلا والولايات المتحدة دولة محتلة. أدركت حينها أن ما قاله فيرلونغ ربما يعكس هذا التوجه الجديد للأمريكيين كقوة محتلة، لذلك فإن العمل معهم لم يعد سهلا.

ولإزالة الإلتباس وكي لا يتصور أحد بأنني أزايد على الآخرين، فإنني كنت قررت الاستقالة قبل صدور القرار 1483 بيوم واحد لكن صدور القرار جعل العمل مع الأمريكيين أكثر صعوبة في غياب أي خطة واضحة لإدارة البلد في تلك المرحلة. وفي اليوم التالي بدأت بكتابة مقال لجريدة الحياة دعوت فيه إلى عقد مؤتمر موسع يضم على الأقل الف شخصية عراقية للتباحث معهم حول تسليم السلطة للعراقيين، وقلت فيه إن الأمريكيين سيخطئون إن قرروا البقاء طويلا في العراق وعليهم ألا يتصوروا بأن مساعدتهم العراقيين في الإطاحة بنظام صدام حسين، وهو عمل يستحق التقدير والثناء، سوف تجعل العراقيين يقبلون بهم كقوة محتلة، وقد نشر المقال في 21 حزيران 2003 ومازال منشورا على موقع جريدة الحياة. 

قدمت استقالتي في اليوم التالي في إيميل وورقة مكتوبة إلى إدارة الشركة التي كانت حينئذ قد قررت نقل العملية كليا إلى بغداد. وكانت قد تولت الإدارة بعد مغادرة رايلي منتصف أيار تقريبا شابة أمريكية من أصل لاتيني اسمها (أندريا) تزوجت لاحقا من طبيب عراقي وهو صديق محترم، وقد طلبت مني أن أبقى كي ادير الإذاعة وكل شؤون الشبكة في الجنوب وسيكون مقري البصرة بينما سيدير احمد الركابي التلفزيون في بغداد. رفضت العرض لأنني لم اقبل بتجزئة إدارة الإعلام العراقي الرسمي خصوصا وأن المبررات ليست مقنعة. قلت لها إن الشبكة واحدة وليس من الصحيح أن تتجزأ إلى اثنتين وليس هناك مبرر لهذه التجزئة أصلا لأنها عملية ما تزال صغيرة ومن الضروري أن تبقى موحدة في الوقت الحاضر. كما أن العراقيين شعب واحد ويجب أن يكون الخطاب الإعلامي في الجنوب والوسط والشمال متناسقا.

 ثم عرضت علي أندريا أن أكون مديرا للإذاعة العراقية، وقالت إنها ستكون مستقلة وأهم مؤسسة خلال الأشهر المقبلة لأن التلفزيون لن يكون جاهزا للبث لبضعة أشهر، وقد رفضت هذا العرض أيضا قائلا إن الإذاعة والتلفزيون يجب أن يكونا ضمن إدارة واحدة كي يستفيدا من بعضهما البعض وكي تكون العملية الإعلامية متكاملة كما هو الوضع في بي بي سي، ثم أن الأمور تسير في الاتجاه الخطأ على ما يبدو، وإن مايك فيرلونغ الذي يدير الإعلام العراقي، يجهل عمل وسائل الإعلام بشكل عام ولا يعرف شيئا عن العراق أو اللغة والثقافة العربية أو الكردية فكيف يكون مسؤولا عن الإعلام؟ ونصحت أن تقتصر مسؤوليته على الشؤون الفنية واللوجستية وهي ليست قليلة بينما تكون مسؤولية الإدارة الإعلامية بأيدي عراقيين يمتلكون الإدارة والخبرة. ثم اختتمت بالقول إن الشبكة سوف تفشل إن بقيت على وضعها الحالي وأنني لن أكون جزءا من هذا المشروع الفاشل.

وبعد تقديمي استقالتي من الشبكة (يوم 22/5/2003) توجهت إلى لندن ومنها إلى أثينا للمشاركة في المؤتمر الدولي حول الإعلام الحر في العراق الذي كنت أحد منظميه والذي من المقرر أن يبدأ أعماله في الأول من حزيران وقد شارك فيه أيضا الدكتور علاء فائق. في بغداد اصبح احمد الركابي مديرا للتلفزيون بشكل مؤقت والست شميم رسام مديرة للإذاعة وكل منهما يعمل بإنفراد. وبعد أقل من شهرين من استقالتي أقيل أحمد الركابي، أو استقال، لا ادري، فخلفه في إدارة التلفزيون جورج منصور، والذي لم يبق طويلا، وبعد فترة قصيرة أصبحت الست شميم رسام أول مديرة لشبكة الإعلام العراقي واصبح الدكتور علاء فائق نائبا لها على ما أتذكر.

أنا لم أسع لأن أكون مديرا ولا تهمني هذه المسائل مطلقا وكل من يعرفني يعرف ذلك عني، ولم يكن لي خلاف شخصي مع احمد الركابي، ولكن كانت لدي رؤية مختلفة في الإعلام والإدارة ولم ارغب أن أكون جزءا من عملية فاشلة. وقبيل مغادرتي الكويت في 28/5/2003، طلب احد المسؤولين الأمريكيين، واسمه أندرو بيرد (Andrew Bird)، أن يلتقي معي لبحث بعض الأمور. التقينا في فندق (غني بالاص) في السالمية وتحدثنا طويلا. الح علي بيرد أن اسحب استقالتي وأبقى في الشبكة وقال لي نصا (إنك باستقالتك من العمل في شبكة الإعلام العراقي تضيع فرصة ثمينة لخدمة العراق الذي يحتاج إلى خبرتك وجهودك). قلت له إنني لا استطيع أن أعمل في أجواء غير مهنية كالتي رأيتها لكنني بالتأكيد سأخدم العراق في مجال آخر، واعتذرت منه وقد كان كيسا وخلوقا إلى ابعد الحدود.

وبعد أن يئس بيرد من إقناعي بالبقاء في الشبكة، طرح علي أمرا آخر وهو أن أساهم في تأسيس قناة أمريكية تبث باللغة العربية ستنطلق قريبا من واشنطن، ويبدو أنه كان يقصد قناة الحرة التي كانت حينئذ فكرة تنتظر التنفيذ. قلت له سوف انظر في الأمر حينما يحين موعده. وفعلا كنت سأذهب إلى واشنطن للعمل في إذاعة سوا أولا ثم الحرة، لكنني غيرت رأيي لاحقا وذهبت إلى بغداد للعمل في مجلس الحكم. وبينما كنت ناطقا باسم مجلس الحكم، كنت في الوقت نفسه أساهم في تقديم برنامج (خطوات) عبر التلفزيون والذي يعده الدكتور علاء فائق.

ما قلته أعلاه هو الحقيقة باختصار شديد ولا اعتقد بأن الدكتور علاء فائق أو الست شميم رسام أو الأستاذ اسماعيل زاير يختلفون معي كثيرا في ما قلته لأنهم عاشوا هذه الأحداث يوما بيوم بل ربما لديهم المزيد وأتمنى منهم أن يكتبوا ما يتذكرونه عن هذا الأمر. هناك تفاصيل ثانوية كثيرة لا أود أن أخوض فيها وآمل ألا اضطر إلى العودة إلى هذا الموضوع مستقبلا. وأخيرا أقول: هنيئا لمن يشعر بأنه أسس شبكة الإعلام العراقي وأنا لن أنافسه على هذا “الإنجاز” مطلقا بل أنأى بنفسي عنه وأتمنى لو لم أساهم فيه أصلا. ما قلته أعلاه ليس ردا على أحد بل هو توضيح لما حصل بالضبط وحسب ما رأيته بنفسي، وبالتأكيد من حق الآخرين أن يختلفوا معي لأنهم ربما رأوا الأمور بشكل مختلف.

حميد الكفائي

ملاحظة: أطلعت كلا من الدكتور علاء فائق والست شميم رسام على المعلومات الواردة في هذا المقال قبل نشره وقد أقراها وأكدا صحتها.

22/6/2017

(الصورة الأولى هي لفريق العمل الأول في شبكة الإعلام العراقي وقد نشرها الأخ علي الأوسي على صفحته في الفيس بوك، ويظهر فيها كل من الست شميم رسام والدكتور علاء فائق والأستاذ علي الأوسي والأستاذ فالح حسون الدراجي والأستاذ عودة التميمي والأستاذ حميد الياسري والست إيمان حسين والأستاذ صادق الركابي والأستاذ حيدر الركابي وآخرون من الكويت لم اعد أتذكر أسماؤهم.الصورة الثانية: مع مدير شبكة الإعلام العراقي الراحل جلال الماشطة في قصر المؤتمرات بعد تعيينه مديرا عاما في أيار من عام 2004)