العودة إلى الماضي لتدمير المستقبل
الحياة، ٣٠ أبريل/نيسان ٢٠١٧

 اعتاد المتطرفون المتشدقون بالدين على اختيار المواجهة مع من يختلفون معهم، ولا تهمهم طبيعة الاختلاف ودرجته، فإنهما مسألتان ثانويتان في رأيهم. وخيار المواجهة مع الخصوم لم يأتِ من فراغ، فهم يعتقدون أنهم قادرون على إلحاق الهزيمة بهم باعتبارهم على حق وخصومهم على باطل، وإنهم سيفوزون بـ «إحدى الحسنيين»، فإما أن يذهبوا شهداء إلى جنان الخلد، وأما أن يرسِلوا خصومهم إلى النار حيث العذاب الأبدي. هذا هو منطقهم وقلما تجدهم يلجأون إلى الحلول الديبلوماسية مع خصومهم حتى وإن شعروا بأن الخصم أقوى منهم.

 والأمر الآخر الذي يتفقون عليه أنهم يعادون المعتدلين من خصومهم أكثر من المتشددين، على رغم أن المعتدلين أقل عداء لهم وخطراً عليهم، لكنهم يحرصون على تأليب أعتى خصومهم وأكثرهم تطرفاً ضدهم من أجل التعجيل بالمواجهة التي يعتبرون فوزهم فيها حتمياً، فسياستهم قائمة على تدمير النفس والخصم.

 الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي وجّه أتباعه عام 2004 بقتل المدنيين السُّنة «حتى تسيل الدماء أنهاراً كي يستيقظوا من نومهم»، وفق ما جاء في الرسائل التي عُثر عليها في أحد مقاره في العراق. الزرقاوي كان معادياً للشيعة، لكنه فضّل قتل السُّنة الآمنين من أجل دفعهم لمحاربة الشيعة، فانتهى به الأمر مقتولاً لينحسر بعده وجود تنظيم «القاعدة» في العراق والعالم. كما استهدف المتطرفون أكثر القادة الشيعة اعتدالاً ووسطية وسلمية، وهو رئيس مجلس الحكم والأمين العام لحركة الدعوة الإسلامية، عز الدين سليم، الذي تمر ذكرى اغتياله في 17 أيار (مايو)، ليغتالوه ومن معه بسيارة مفخخة.

 قادة طالبان في أفغانستان كانوا أكثر عداء واستهدافاً للمعتدلين والضعفاء من أبناء الأقليات. فعندما دخل مقاتلو حركة طالبان مدينة مزار شريف عام 1998 ارتكبوا مجازر بحق المدنيين من أقليات الهزارا والأزبك والطاجيك، وكان استهدافهم الأكبر للأقلية الأضعف وهي الهزارا كما وثّقت ذلك منظمة «هيومان رايتس ووتش». ولم تسلم البعثات الديبلوماسية من فورة القتل تلك، فقد قتل «الفاتحون» طاقم القنصلية الإيرانية والصحافيين الذين بمعيتهم. وقبيل دخول القوات الأميركية في آذار (مارس) 2001، تحدى قادة طالبان العالم، وحققوا آخر إنجازاتهم ألا وهو هدم تماثيل بوذا المنتصبة في جبال باميان منذ 2500 عام. لم يستجيبوا للمناشدات الدولية بالحفاظ على هذا الإرث العالمي، حتى تلك التي وردتهم من رجال دين متعاطفين معهم.

 تنظيم «داعش» في العراق وسورية استهدف الأقليات المسالمة كالإيزيديين والمسيحيين وعاملهم معاملة قاسية غير إنسانية على رغم أنهم لم يشكلوا خطراً عليه، كما قسا على السكان السُّنة الذين يدعي بأنه جاء لنصرتهم، واستهدف موظفي الإغاثة الدوليين والصحافيين والنساء وكلهم عزَّل ولا يهددون أحداً. القسوة واستهداف الضعفاء المختلفين هما الطابع العام لأفعال المتطرفين والمفارقة أنهم يبررون أفعالهم الشنيعة دينياً!

 وعندما احتجز «الطلبة السائرون على خط الإمام» طاقم السفارة الأميركية في طهران عام 1979، وهو عمل مخالف للأعراف الديبلوماســية الدولية ولا يعبِّر عن شجاعة أو موقف ســـياسي ســليم، لأن الديبلوماسيين مدنيــون وبإمكان أضعف دولة في العالم أن تحتجزهم وتفعل ما تشاء بهم، ظلوا يماطلون 444 يوماً في المفاوضات مع حكـــومة كارتر الديموقراطية المعتدلة ولم يسلموا الرهائن إلا عندما تسلم الجمهوري اليمــيني، رونالد ريغان، السلطة، والهدف هو «إذلال» الديموقراطيين المعتدلين ودفعهم إلى التشدد كي يبدو الغربيون جميعاً متشددين.

 الجماعات الدينية المتطرفة جميعاً تسير وفق المنطق نفسه، فقد استهدفت فرنسا التي يحكمها الاشتراكيون الليبراليون بزعامة فرانسوا هولاند، وأوقعت فيها أكثر الأعمال الإرهابية عشوائية وهمجية كالتي حصلت في نيس. كما استهدف المتطرفون ألمانيا التي يقودها الليبراليون بزعامة انغيلا مركل التي توصف بأنها زعيمة الليبرالية في العالم، واستخدموا شاحنة ممتلئة بالمتفجرات لقتل الأبرياء المحتفلين بأعياد الميلاد في شارع وسط برلين.

 يعتقد المتطرفون أنهم عندما يهاجمون المعتدلين في الغرب فإنهم بذلك يدفعون الشعوب الغربية إلى التطرف وبذلك تكون المواجهة حتمية، كما أنهم يريدون البرهنة للشعوب الإسلامية أن الغربيين جميعاً معادون للمسلمين، وأن وجود المعتدلين يفسد عليهم هذه النظرية! لقد فرحوا بقرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي لأن ذلك يضعف «قوى الكفر» ويفرقها! كما فرحوا بانتخاب دونالد ترامب لأنه «معاد للمسلمين، ما سيدفع المسلمين جميعاً للاصطفاف ضد أميركا»! وفرحوا بفوز مارين لوبن في الجولة الأولى للانتخابات الفرنسية للسبب نفسه. لكن «أفراحهم» ستبقى موقتة لأن العقلانية ستسود في الغرب في آخر المطاف، وفرنسا، وهي أول بلد في العالم يثور على التخلف ويدشن الليبرالية، لن تعود إلى الوراء، ولن تغير سياستها بضعة أفعال إرهابية، مهما كانت شنيعة ومقززة لكنها لا تليق إلا بالإرهابيين الظلاميين. وأميركا التي تأسست على مبادئ التعايش والديموقراطية وحقوق الإنسان، ستعود إلى زعامة العالم الحر، على رغم انتكاسة ترامب. وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يعني خروجاً على أوروبا ومبادئ العالم الحر التي انطلقت منها في لائحة «ماغنا كارتا» عام 1215، بل هي مسألة إدارية اقتصادية بحتة ستزول بزوال مسبباتها.

 الغربيون الذين يتأثرون بما يفعله الإرهابيون ويتراجعون عن المبادئ الليبرالية والإنسانية التي بشروا بها منذ مئتي عام، إنما يقدمون خدمة «جليلة» للجماعات المتطرفة ويمكِّنونها منهم ويعززون شعبيتها في العالم الثالث ويقدمون لها الحجج التي تنشدها كي تواصل مسيرتها الهمجية. المتطرفون غير قادرين على العيش في عالمنا هذا لذلك يحاولون أن يعودوا إلى الوراء ليعيشوا في عالم مضى، ويعيدوا معهم الآخرين، وعندما يفشلون في بلوغ هذا العالم المستحيل، فإنهم يلجأون إلى قتل أنفسهم وقتل الآخرين معهم. إنهم ينتحرون لأن الانتحار هو الحل لمن يفقد الأمل بمواصلة الحياة، وهم فاقدو عقل وأمل.

بلداننا وحكوماتنا ومؤسساتنا ونخبنا الثقافية مدعوة لأن تبتكر حلولاً عاجلة لمعالجة ظاهرة التطرف التي عرقلت الحياة في بلدان كثيرة وتسير بنا إلى مهاوي الردى. لم يعد الأمر قابلاً للتأجيل. لابد أن تنشط وزارات الثقافة والتعليم والعمل والشؤون الدينية الآن في نشر الوعي ومبادئ احترام الآخر والاحتفاء بالحياة والتطلع إلى مستقبل أفضل، بدل العودة إلى الماضي عبر تدمير الحاضر والمستقبل.

حميد الكفائي

http://www.alhayat.com/Opinion/Hamid-Al-Kafaee/21586985/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A-%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84