الحياة، ٢٧ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٦
إن لم يتمكن بنو البشر من التوافق على التعايش كل وفْق ثقافته وما جُبِل عليه، ولم يقبلوا بحق بعضهم البعض بالعيش الآمن عبر التفاهم السياسي والتعاون الاقتصادي والتوازن العسكري، فإن هناك طريقاً آخر هو «الديبلوماسية الثقافية» التي ستنجز ما عجزت عنه الاتفاقيات والتفاهمات السابقة، وهذا على الأقل ما دعا إليه مشاركون في «مؤتمر الديبلوماسية الثقافية» الذي نظمه معهد الديبلوماسية الثقافية في برلين على مدى خمسة أيام في الفترة ١٤-١٨من الشهر الجاري.
 
لقد كان المؤتمر مهرجاناً ثقافياً عالمياً نادراً شاركت فيه عشرات الشخصيات السياسية والثقافية والقانونية والديبلوماسية والفنية والدينية من بلدان عدة، لكن حصة أوروبا كانت غالبة، وألقيت فيه بحوث وكلمات لرؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء ونواب وسفراء، سابقين وحاليين، وخبراء في شتى المجالات من سائر بلدان العالم تقريباً. وقد أوضح المشاركون كيف يمكن أن تُردم الفجوة الكبيرة بين الثقافات العالمية المختلفة التي ساهم سوء الفهم وغياب التفاهم في اندلاع الحروب والأزمات وأعمال العنف في بلدان كثيرة.
 
بدأ المؤتمر بمناقشة القضايا الثقافية لينتقل تدريجاً إلى القضايا الاقتصادية والتربوية والسياسية والاستراتيجية. رئيسة كوسوفو السابقة، عاطفة يحيى أغا، ألقت كلمة مؤثرة تحدثت فيها عن الجرائم التي ارتكبتها صربيا ضد شعب كوسوفو وأوردت أرقاماً لضحايا القتل والاغتصاب. وعلى رغم أن كلمتها لاقت استحسان الحاضرين، لما أبدته من لباقة وتمكن، إلا أن وزيراً صربياً اعترض على ما قالته وطالبها بنسيان الماضي وفتح صفحة جديدة. لكن جوابها كان دامغاً: «لم أذكر إثنية المجرمين أو الضحايا. دعني أخبرك أن كثيرين من ضحايا صربيا الكوسوفار هم صرب وأنا أدعو كل من غادر البلاد منهم إلى العودة إلى كوسوفو التي تتسع لجميع سكانها. نعم نتطلع إلى المستقبل، لكن الماضي يجب أن يكون نقطة انطلاق نحو المستقبل كي نتذكر بأن علينا أن نبني مستقبلاً جديداً».
 

 

أما رئيس وزراء بولندا السابق، ماراك بلكا، فكان حديثه طريفاًلكنه يحمل دلالات عميقة، وقد سخر من الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، متهماً إياه بأنه لا يعرف ماذا يقول ودائماً يتبنى أفكار «آخر شخص يلتقي به»! وحذر بلكا من تنامي النزعات اليمينية في أوروبا التي من شأنها أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وشاركه في ذلك متحدثون كثر.
 
الرئيس الألباني، بوجار نيشاني، ركز على أهمية الديبلوماسية الثقافية في التقريب بين الشعوب مذكّراً بدور بلده في هذا المجال ومساهماته التي اعتبرها مؤثرة لأن شعب ألبانيا متنوع الديانات والثقافات والأعراق، وأشاد بالدور الذي لعبته المواطنة الألبانية، الأم تريزا، في مساعدة الفقراء في دول العالم، ما ساهم في توحيد الشعوب حول المبادئ الإنسانية.
 
ممثل بريطانيا في المحكمة الجنائية الدولية، السفير توني برنتن، ألقى بحثاً مفصلاً عن الحرب الباردة وكيف ربح الغربيون هذه الحرب وتمكنوا من الإطاحة بالشيوعية التي أرادت أن تلغي التنوع الاجتماعي والثقافي والديني، لكنه لم ينسَ الإخفاقات معتبراً ما حصل في العراق وليبيا من أهمها، إذ تمكن الغربيون من الإطاحة بنظامين ديكتاتوريين لكنهم عجزوا عن بناء نظام ديموقراطي حقيقي في أي منهما، لكنه أشاد بنجاح التجربة الديموقراطية في تونس. وذكر برنتن أن السياسات الغربية السابقة بدعم حكام ديكتاتوريين لمجرد أنهم حلفاء للغرب لن تتكرر «لأننا أدركنا خطأنا».
 
رئيس المعارضة الإسبانية السابق، بدرو سانشيز، دعا إلى اتباع نهج جديد هو «دمقرطة الديموقراطية» أو تطويرها إذ تكون مناسبة وملائمة لتطورات العصر وتقف حائلاً أمام بروز نزعات يمينية متطرفة قال إنها بدأت تنمو في أوروبا. وكانت هناك أبحاث أخرى عن الديموقراطية ومراحل تطورها وتنوعاتها وامتداداتها واحتمالات انتشارها، بينها بحث قدمه كاتب السطور حول معوقات الديموقراطية في العالم العربي.
 

ولم تقتصر الأبحاث والكلمات على السياسيين بل ألقى موسيقيون وفنانون ورياضيون ورجال دين وحقوقيون واقتصاديون وإداريون أبحاثاً كان معظمها يدور حول فكرة التعايش والتفاهم بين الثقافات العالمية ومساعدة الفقراء ومعالجة مشكلة اللاجئين وكيفية استثمار المشتركات الكثيرة بين الشعوب والقبول بالاختلافات الثقافية.
 
وركز باحثون على أهمية التعليم وقالوا إنه كفيل بتحقيق التفاهم الثقافي المنشود ومنع حدوث الحروب والنزاعات، ودعا قسّ ألماني إلى نشر الوعي الديني عبر تدريس الدين في المدارس واعتبار أن كل الأديان تدعو إلى السلام والوئام، بينما ألقى رئيس الأساقفة في العراق نيكوديموس داود شرف كلمة مؤثرة أوضح فيها الجرائم التي ارتكبتها جماعة «داعش» بحق المسيحيين العراقيين الذين وصفهم بأنهم مسالمون ساهموا في بناء العراق، وأنهم لا يريدون معاملة خاصة وكل ما يطالبون به تفعيل القانون ليحمي الجميع.
 
هل سيتحقق التفاهم العالمي المنشود وتتلاشى الحروب والنزاعات والصراعات كما يأمل المشاركون في مؤتمر برلين للديبلوماسية الثقافية؟ وهل ستحقِّق الديبلوماسية الثقافية ما عجزت عنه الديبلوماسية السياسية والقوة العسكرية والتعاون الاقتصادي؟ ربما، ولكن كم من الوقت ستستغرق عملية تعرف الشعوب إلى ثقافات بعضها البعض؟ وكم سيتطلّب ذلك من جهد ومال وإرادة مشتركة؟
 
لا شك في أن التقارب الثقافي ممكن على الأمد البعيد لكنه ليس سهلاً بل يتطلب جهداً دولياً مشتركاً قد لا يكون قادة العالم المتنفذون مستعدين له أو مدركين أهميته. لكن المطلوب الآن هو وقف انتشار العنف باسم الدين والتمييز الثقافي والمصالح، فما أن اختتم المؤتمر أعماله في برلين حتى أقدم إرهابي يقود شاحنة على دهس المدنيين الأبرياء المحتفلين بأعياد نهاية السنة في سوق وسط برلين، بينما قتل آخر السفير الروسي في أنقرة.