أحد معوقات التطور والتنمية في بلداننا ومجتمعاتنا هو قصور الفهم وغياب الخبرة السائدان بين المتصدين للشأن العام، إذ قلما تجد بينهم من يفهم فهما عميقا متطلبات الدولة الحديثة وتشعبات السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، بل تجدهم ينطلقون من انحيازات شخصية أو مصالح متخيلة او تفسيرات ضيقة للأمور أو رغبة في الشهرة والحصول على أصوات الناس العاديين عبر إطلاق شعارات وآراء شعبوية دون إدراك لنتائجها المدمرة، ومن يدرك منهم النتائج فهولا يبالي فهمه الأول والأخير هو تحقيق مكاسب شخصية على الأمد القصير.
 
خذوا مثلا قانون حظر المشروبات الكحولية الأخير في العراق، فهذا القانون يمكن أن يجلب على العراق وبالا جديدا ويتسبب في تشكيل عصابات إجرامية مسلحة جديدة لا يمكن أجهزة الدولة أن تسيطر عليها أو تردعها لعشرات السنين حتى بعد إلغاء الحظر، كما أنه سيضاعف الفساد مرات عدة وينمّي السوق السوداء ويخلق تجمعات سرية تعادي الدولة والمجتمع وتمارس الجريمة المنظمة. الغريب أن رئيس مجلس النواب اعترف امام وفود اجنبية أن القانون (غير مدروس)! والسؤال هو لماذا إذن تمرره يا سيادة الرئيس؟ ألا يعني هذا أنك غير مؤهل للمسؤولية الوطنية المناطة بك؟ وأن همك الأول هو البقاء في المنصب بغض النظر عن النتائج؟
 
لقد اصبح لزاما على الناس أن ينتخبوا من لديه الخبرة والتجربة النافعة والفهم العميق للشؤون العامة بالإضافة إلى توفر الضمير الحي والحس الوطني والالتزام المهني لديه. لكن قانون الانتخابات الحالي لا يساعد على ذلك، فهو يأتينا دائما بنماذج من النواب والمسؤولين اللااباليين وغير المؤهلين للقيادة الذين لا يقدمون للمجتمع سوى اللغو وتوافه الأمور والقوانين أو السياسات المضرة… بعضهم لا يفقه ما يقول أصلا بل ولا يفهم معاني الكلمات التي يطلقها…
 
سمعت إحدى (النائبات) تقول (الاستجواب كاهل ثقيل على النائب)!!! يعني سيادة (النائبة) لا تعرف معنى كلمة (كاهل)… بينما كتب احدهم (مقالا) كشف فيه عن جهل معيب لأبسط البديهيات التي يعرفها أبسط الناس لكنه مع ذلك لا يتردد في إبداء الرأي بأمور مهمة ومعقدة… أحد النواب اقترح (استساخ) قائده باعتبار أن الدهر لن يجود بمثله! أما النائب الكارثة فقد أضاف آية إلى القرآن كانت سابقا مقولة مأثورة ثم أصبحت جزءا من قصيدة للشاعر العراقي المعروف بلند الحيدري (العدل أساس الملك… صه لا تحكِ… كذب كذب كذب كذب… الملك أساس العدل…. أن تملك سكينا تملك حقك في قتلي… صه لا تحكِ).  بعضهم لم ينتخبه الناس أصلا لكنه جاء عبر نظام تعويض الأعضاء الذي يتحكم به زعماء الكتل والأحزاب… وهذه أيضا مشكلة خطيرة أخرى فالأحزاب ما تزال تدار من قبل قلة من الأفراد هم زعماؤها (أو بالأحرى أصحابها!) وليس عبر إدارات منتخبة قديرة. فزعيم الحزب، وحده، ودون تشاور مع الآخرين، يقدم اسماء أتباعه ومتملقيه كي يكونوا وزراء ونوابا وهو يتوقع منهم أن ينفذوا أوامره وهم بالتأكيد يفعلون ذلك دون تردد باعتباره سيد نعمتهم. بعض الوزراء يسمح له تفكيره (العلمي) وخبرته (العملية) بأن يصدق بأن العراق كان لديه مطارات ومركبات فضائية أيام السومريين! 
 
بعض الأحزاب هي في الحقيقة مشاريع شخصية أو عائلية بحتة وليس لها أهداف وطنية بل تسعى إلى ترسيخ سلطة الشخص أو العائلة واعتقد أن هذا واضح للجميع، فكل من يتولى منصبا يأتي بعائلته وأتباعه وكأن المنصب ملك شخصي له أو هبة نزلت عليه من السماء وليس تكليفا وطنيا مشروطا بالنزاهة وحسن الإدارة… هذه المهزلة يجب ان تتوقف لأنها أحدثت أضرارا بما فيه الكفاية حتى الآن ولم يعد البلد قادرا على تحملها إلى ما لا نهاية… لكنها ستبقى مسؤولية الناس أولا وأخيرا وهم بالتأكيد يستحقون أفضل من الفضائح والنوائح الحالية التي تملأ الفضاء صراخا ورذاذا ورثاثة…
 
حميد الكفائي