الحياة اللندنية 2007-03-16
لم تكن المرة الأولى التي يستهدف فيها سوق المتنبي للكتب، ولم يكن من غير المتوقع أن يستهدف مثل هذا السوق الذي يمثل تجمعا يوميا للمثقفين والكتاب والشعراء والطلاب والزائرين على حد سواء. سوق المتنبي المتفرع من شارع الرشيد، أعرق وأشهر شوارع العاصمة العراقية بغداد، رمز من رموز الثقافة والأدب في العراق وهو ليس مجرد سوق للكتب، بل متنفس يلجأ إليه كل من يحب الثقافة والأدب والتعليم، وكل من يستمتع باستطلاع عناوين الكتب القديمة والحديثة والصور النادرة وكل من يرغب أن يزخرف بيته بالمخطوطات والصور الزيتية والكتب. من لم يزره لم يزر بغداد، ومن زاره لن يخرج منه إلا محملاً بأعداد كبيرة من الكتب والمقتنيات الفنية الأخرى.
 
كنت قبل مغادرتي بغداد قبل أشهر عدة قد أقتنيت منه كتبا بعضها كنت قد قرأته منذ زمن بعيد ولا يزال موجودا في مكتبتي لكنني أردت أن أقتني نسخا جديدة وبطباعة أفضل من شارع المتنبي، الذي تتوفر فيه كل الطبعات السابقة واللاحقة، العراقية واللبنانية والمصرية، وأخيرا الإيرانية.
لم استطع أن أغادر بغداد من دون أن أحمل معي شيئا من المتنبي، وهذا هو شعور كل قارئ وكاتب وفنان عراقي، بل كل مواطن عراقي أو زائر للعراق. المتنبي الشاعر والمتنبي الشارع يعيشان في أعماق العراقيين عموما والبغداديين خصوصا.
 
استهداف المتنبي هو استهداف للعراق كله بكل مكوناته وتاريخه وثقافته، والمستهدِف هو من دون شك عدو للعراق وللإسلام والثقافة والمعرفة والإنسانية في الوقت نفسه. إنه عداء لا تفسير أو منطق له ولا هدف سوى محاربة الإنسانية والحياة وكل شيء جميل. أهمية المتنبي، الشاعر والشارع، يعرفها الجميع لكن كل هذه الأهمية الثقافية والتاريخية والجمالية للشاعر أو سميه لم تجلب له اهتمام الحكومة العراقية كي تضعه ضمن أولويات الخطط الأمنية المتعاقبة، الناجحة منها والفاشلة، ولم يحظ بالحماية التي يتمتع بها أي وزير أو وكيل وزارة أو مدير عام أو أي من أقارب المسؤولين العراقيين الكبار أو الصغار، ولو علم الإرهابيون أنه يتمتع بحماية معقولة لما استهدفوه أصلا. استهداف المتنبي لم يكن عشوائيا بل خُطط له تخطيطا دقيقا، فالإرهابيون، على خلاف الحكومة العراقية، يخططون ويحْكِمون خططهم ويوقعون أكبر الخسائر بأعدائهم سواء كانوا مواطنين عاديين أم مسؤولين أم رجال شرطة أم مبان أم أضرحة، أم كتب أدب أو مخطوطات. المهم بالنسبة لهم هو إلحاق الأذى بالآخر وهذا الآخر المسكين تقوده حكومة همها الأول هو حماية أفرادها وأقاربهم على ما يبدو، وبرلمان يحارب بعضه البعض ويحاول إفشال خطط الحكومة الأمنية، التي صادق عليها، وكتل سياسية «متحالفة» تسعى لإفشال مساعي بعضها البعض.
 
جريمة الاعتداء على المتنبي لا تضاهيها جريمة أخرى، ليس بعدد الضحايا أو حجم الدمار، بل من حيث الهدف المقصود بالتدمير، فهي اعتداء على الحياة والتاريخ والثقافة والأدب والدين والذاكرة الجمعية العراقية. اعتداء على الفن والجمال والأناقة والرقي. إنه اعتداء على الشرق وقيمه وثقافته ونمط حياته… لم يعلن أحد عن مسؤوليته لا «المقاومة الوطنية» ولا «المقاومة الإسلامية»، لأن الاعتراف بذلك عار حتى على الإرهابيين أنفسهم. عهدنا بالمقاومين أنهم يحملون قيماً ويحاربون ويقتِلون ويقتَلون من أجل حقوق مغتصبة وأهداف إنسانية نبيلة يحترمها قطاع كبير من المجتمع… وهؤلاء المقاومون أو المعارضون الفلسطينيون واللبنانيون والأيرلنديون والإيرانيون والسيريلانكيون والتيموريون الشرقيون، بل ومقاتلو «طالبان»، أمامنا لم يفعلوا هذه الشنائع ولم يدنسوا أهدافهم السامية، في مخيلتهم على الأقل، بقتل أبرياء أو استهداف أبناء بلدهم وجلدتهم، إلا في بعض الاستثناءات المتباعدة التي قد نجد لها تفسيراً مهما كان غريباً. لم يستهدفوا مكتبة أو مستشفى أو جامعة أو كنيسة أو مسجدا أو سوقا أو تجمعا سكانيا. مقاومو أيرلندا الشمالية كانوا يزرعون القنابل الموقوتة في أماكن مهمة، أهلية أو حكومية، لكنهم يتصلون بالشرطة قبل موعد الانفجار بوقت كاف ليعلموها بمكان القنبلة ونوعها ووقت تفجيرها ويتركون للشرطة متسعا من الوقت كي تتمكن من إبطال مفعولها قبل موعد انفجارها. هدفهم من زرع القنبلة هو إرسال رسالة إلى الحكومة مفادها «أننا قادرون على الوصول إلى أي هدف، لكننا لا نستهدف الحياة». لم يستهدفوا الحياة لأنهم يريدون لها أن تستمر ولأنها مقدسة في أعرافهم وقيمهم ودينهم. لكن «مقاومي» العراق الجدد لم يتركوا أمامهم هدفا حياً أو جماداً إلا ضربوه وخربوه ودنسوه مهما كان مقدسا… ولم يقفوا عند حد أو يحترموا مقدسا… إنه الانحطاط الذي تجاوز الحدود والحقد الذي أعمى القلوب والبصائر، والاستسلام التام لنزوات الثأر والكراهية والتجرد الكامل من مشاعر الأخوة والإنسانية…
 
ورغم كل هذه الشنائع والبشائع فإننا نجد من يبرر لهؤلاء دينياً ويصدر لهم «الفتاوى» التي تبيح الشنيع والمحظور والمحرم، أو يجد لهم العذر «فهم يقاتلون المحتل» في شارع المتنبي أو «المرتد» في ضريح الإمام الحسين أو مسجد الإمام الكاظم أو «المتعاون مع المحتل» في أسواق الموصل والحلة والشورجة أو «المرحِّب بالمحتل الكافر» بين أطفال حي العامل أو شرطة الرمادي و»الخائن» بين المهنئين بعيد الأضحى في أربيل أو «الساكت عن الاحتلال» من الشباب في محلات بيع «الآيس كريم» في البصرة في أماسي شهر رمضان المبارك!
ما يحصل في العراق اليوم لم يحصل في أي بلد آخر، فلم يصل الاختلاف بين الفلسطينيين أو اللبنانيين أو الجزائريين أو اليمنيين إلى الدرجة التي تدفعهم إلى قتل أطفال بعضهم بعضاً أو هدم مساجد بعضهم البعض أو تهجير بعضهم بعضاً. بل لم يلجأ متطرفو صربيا إلى هذه العشوائية في صراعهم مع البوسنيين… إنه الجنون في أقصى مداه والهمجية بحدود لم نألفها من قبل…
 
ولكن ما هو واجب الأشقاء والجيران وأبناء بني البشر الآخرين إزاء ما يجري في العراق؟ ما هو واجب المثقفين والكتاب والسياسيين العرب والمسلمين؟ حتام يصمتون أمام هذه الفظائع وهذا التدمير الجنوني للحياة؟ هل يعتقدون أن الصمت سيحل المشكلة، أو يوقفها عن الانتشار إلى دول الجوار؟ أين يكمن الحل لمشكلة العراق؟ بل هل هناك حل منطقي أو معقول غير التقسيم والتهجير والتطهير العرقي والطائفي؟
وهل يمكن أن تكون هذه الحلول حلولا عملية والعراقيون قد اختلطوا عرقياً وطائفياً وجغرافياً ببعضهم بعضاً؟ روت لنا الأخبار أن عائلتين عراقيتين، إحداهما سنية وأخرى شيعية، قد هُجِّرتا من منزليهما الكائنين في منطقتين مختلفتين في بغداد على أيدي مجموعتين طائفيتين متقاتلتين، فقررتا العيش في منزل واحد جديد! إن كان التلاحم والتواصل الاجتماعي بهذا القدر بين مكونات الشعب العراقي فكيف يمكن أن يكون التقسيم أو التهجير أو التطهير حلاً؟
 
الذين استُهدِفوا في شارع المتنبي هم سنة وشيعة وعرب وأكراد وتركمان ومسلمون ومسيحيون، مثقفون وكتاب وأدباء وباعة ومتسوقون عاديون. الذين قتلوا هم عراقيون من كل والأعراق والطبقات والطوائف والذين رثوهم هم أيضا من كل الأعراق والطبقات والطوائف. فمن هو العدو يا ترى بين هؤلاء جميعا؟
 
وسط هذه البشائع والفظائع، هناك أيضا جمال وفن وإنسانية وتحد، فقد تجمع مثقفو العراق وأدباؤه من كل الفئات بين ركام شارع المتنبي وحطام أبنيته المحترقة بعد ثلاثة أيام من الاعتداء ليقيموا مهرجاناً أدبياً رفضوا فيه الإرهاب وأعلنوا بتحد قل نظيره أن أدب المتنبي باق وشارعه سيبقى مهما اشتدت قوى الظلام وقست. اجتمع الشعراء والفنانون وقرأوا قصائدهم وأدوا مسرحياتهم وهتفوا بالحياة وأحرقوا «قمصانهم» احتجاجا. إنها طريقة جديدة في الاحتجاج… إنه الإبداع العراقي المتجدد..
 
سيستهدف الإرهابيون المتنبي من جديد، وسيحرقون كتبه ويقتلون كتابه ومثقفيه ومتسوقيه، وسوف يستهدفون أسواق الشورجة والحلة والصدرية والصدر والكرادة والباب الشرقي وساحة الطيران أو مرائب «النهضة» و «علاوي الحلة»… هذا مؤكد، لكن غير المؤكد هو أن تقوم الحكومة العراقية «المنتخبة» بحماية أرواح من انتخبوها وممتلكاتهم، أو أن تقوم الدول المجاورة بملاحقة الإرهابيين لإيقافهم عن ارتكاب مزيد من الجرائم، أو تتوقف عن مساعدتهم أو تسهيل مهمتهم في أقل تقدير، أو أن يتوقف بعض «علماء» الدين من كل الطوائف عن تشجيع العنف في صلوات الجمعة أو برامج «الإرشاد» الديني.
 
http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/2007/3/16/%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%86%D8%A8%D9%8A.html

http://international.daralhayat.com/archivearticle/140232