هل تؤثر خصومات بوريس جونسون على علاقات بريطانيا الخارجية؟

 الحياة، ٢٥ يوليو/ تموز ٢٠١٦

بعض القادة يبرزون عبر تبني أفكار شعبوية متشددة، وهم بذلك بين الإيمان الحقيقي بها أو ادعائها لاستقطاب البسطاء ممن تستهويهم تلك الأفكار ويتوهمون أن المواقف المتطرفة تحقق أهدافهم. غير أن القادة المحنكين هم الذين ينظرون إلى أبعد من الحسابات الآنية، فلا ينسفون الجسور بينهم وبين خصومهم، لأنهم يعلمون أنهم سيحتاجون إلى العبور عليها مستقبلاً. قد يحتفظون بمواقف متشددة من أجل كسب الأتباع لكنهم يتخلون عنها فعلياً فور وصولهم إلى السلطة، لأن منطق السلطة يحتم المساومة وتقديم التنازلات من أجل الحصول على المكاسب. المتطرف خارج السلطة يصبح مرناً داخلها إن كان محنكاً، ومن لا يغير موقفه لا يصلح للسلطة لأنها ستلفظه في أول فرصة. المتشددون الذين وصلوا إلى السلطة ولم يتغيروا أتعبوا شعوبهم وجروا عليها الخسائر ثم غادروا السلطة مدحورين غير مأسوف عليهم.

قد ينسى البعض أن الآراء المتشددة، خصوصاً المُهينة للخصوم، سوف تلاحقه عندما يصل إلى السلطة وتكون وبالاً أكبر على البلد إن كانت الخصومات خارجية. ومن الأمثلة على هذا النموذج من القادة هو بوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني الجديد، الذي يعرف باسمه الأول على غير العادة. لقد واجه بوريس الصحافيين في أول مؤتمر صحافي له بمعية وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ولم يتمكن من أن يقدم تفسيرات مقنعة للأوصاف الحادة والأكاذيب التي أطلقها ضد الرئيس باراك أوباما عندما وصفه بأنه «نصف كيني يكره الإمبراطورية البريطانية كأجداده»، وهيلاري كلينتون، التي وصفها بأنها «امرأة خائبة ذات شفتين متدليتين ونظرات فولاذية غاضبة، صبغت شعرها باللون الأشقر وأصبحت كممرضة سادية في مستشفى للأمراض العقلية»! ويواصل بوريس هجومه على كلينتون: «على كل محبي أميركا أن يفكروا بدعم هيلاري ليس من أجلها بل من أجل أن يعود بيل كلينتون إلى البيت الأبيض ليلعب دور «الزوج الأول». فإن كان بيل قادراً على التعامل مع هيلاري فإنه بالتأكيد قادر على التعامل مع أي أزمة كونية»!

لم يسلم أحد من التوصيفات الحادة لبوريس، الشاعر والكاتب الساخر البارع الذي بدأ حياته صحافياً في جريدة «تايمز»، والتي أقيل منها بعد استخدامه تصريحاً ملفقاً، لكنه انتقل إلى صحف أخرى فأصبح مراسلا لـ «ديلي تلغراف» في بروكسل، ثم رئيساً لتحرير مجلة «سبكتيتور». لا يتردد بوريس في إطلاق التعابير الساخرة والمهينة للأفراد والجماعات، حتى أصبحت وسائل الإعلام تلاحقه من أجل الحصول على هذه التعليقات المثيرة التي توسّع من انتشارها، حتى أن عدد قراء مجلة «سبكتيتور» تضاعف عندما أصبح بوريس رئيساً لتحريرها. والغريب أن بوريس لم يتضرر سياسياً من تعليقاته الساخرة المهينة، بينما خسر كثيرون وظائفهم وانتهوا سياسياً لمجرد التفوه بتعبير ازدرائي. لكن بوريس انتقل من نجاح إلى آخر وربما ساهمت أفكاره الغريبة في اتساع شهرته. لقد أصبح نائباً في البرلمان لأربع سنوات ثم فاز في انتخابات عمدة لندن متغلباً على منافسه اليساري ذي الشعبية الكبيرة كن ليفنغستون، الذي فاز بمفرده ضد مرشحي أحزاب المحافظين والعمال والأحرار عام 2000.

بوريس، الإنجليزي المحافظ ذو الاسم الروسي والأصل التركي ومسقط الرأس الأميركي، لم يتردد يوماً في مهاجمة الآخرين، شعوباً وحكاماً. والغريب أنه ولد في نيويورك ويحمل الجنسية الأميركية، وتربى في طفولته في بروكسل، إذ كان والده يعمل في المفوضية الأوروبية ثم أصبح نائباً في البرلمان الأوروبي. بينما كان جده الأعلى، علي كمال، وزيراً في العهد العثماني، لكن ابنه عثمان غيّر اسمه إلى ويلفرد جونسون بعد انتقاله إلى بريطانيا وزواجه من إنجليزية. ويفترض بشخص بهذه الخلفية أن يكون عالمي التفكير ومنفتحاً على الآخرين، لكن بوريس تحدى المألوف وأصبح من أشد منتقدي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتجاوزهما إلى بلدان وشعوب أخرى. فقد وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قصيدة بأنه عقد «مؤتمراً جنسياً مع معزة»! ما دفع رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إلى القول «أدعو له بالصلاح وأتمنى أن يصحح موقفه مع الأتراك مستقبلاً». كما قال إن «من الأفضل لأفريقيا أن تبقى تحت سيطرة القوى الاستعمارية»! وقد علق مسؤول أوغندي بالقول: «لو عينت الولايات المتحدة أو روسيا شخصا مثل بوريس لكنا قد قلقنا، لكن بريطانيا لم يعد لها تأثير في العالم ولذلك هربت من الاتحاد الأوروبي».

ويتهم بوريس الرئيس أوباما بأنه يحتقر الزعيم البريطاني وينستون تشرشل وأنه أزال صورته من البيت الأبيض بعد أيام من وصوله إليه. وقد أزعجت اتهامات بوريس لأوباما حتى عائلة تشرشل، إذ قال حفيده، النائب نيكلوس سومز، إن بوريس «لا يعبأ بالحقائق ولا يهتم للصدق، وإن أحكامه على الآخرين منحرفة وهو لا يمتلك مقومات الزعامة».

أما الخبير في الشؤون الخارجية، إيان برمر، فقد سخر من بوريس قائلاً إن «العلاقة الخاصة» بين بريطانيا وأميركا سوف تتحول إلى «علاقة احتياجات خاصة» لأن «العمدة السابق ذا الفم الصاخب قد أطلق أوصافاً لا طعم لها على القادة الأميركيين».

امتلأت كتابات بوريس وأقواله بالآراء الحادة لكنه كان يعقبها باعتذارات أحياناً، فقد وصف أهالي ليفربول بأنهم «تمرغوا بالحزن» بعد مقتل ابن مدينتهم كن بيغلي في العراق عام 2004، ما أزعج سكان المدينة ودفع زعيم حزب المحافظين مايكل هوارد، إلى أن يأمره بالذهاب إلى ليفربول للاعتذار لهم شخصياً. كما قال إن الغينيين يأكلون لحوم البشر، واستخدم تعبير (piccaninnies) الازدرائي لوصف الأفارقة. لكن حزب المحافظين لم يلفظه سياسياً كما فعل مع إينوك باول عام 1968 الذي استخدم التعبير ذاته، إذ أقصاه أدوارد هيث من الحزب وحكومة الظل لينتهي بعدها إلى البراري السياسية.

أصبح بوريس وزيراً للخارجية، لكن هذا التعيين قد يضع نهاية لطموحاته السياسية، فرئيسة الوزراء تريزا مَاي، المعروفة بتأييدها بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وضعته في موقف محرِج يجعله في مواجهة خصومه الأجانب الذين «أبدع» في إهانتهم، وهو الآن بين خيارين. أما أن يدرك الأخطاء التي ارتكبها ويغير سياساته كلياً، وهذا يقلل من صدقيته ويضعف موقفه، أو يصر على آرائه السابقة ويفشل في عمله وعندها سيستقيل أو يقال. إنه سيخسر في الحالتين.

حميد الكفائي 

http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/16688936/%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%A4%D8%AB%D8%B1-%D8%AE%D8%B5%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%AC%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%88%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9%D8%9F