دعوة إلى العقلانية

مجلة الهدى-تشرين الثاني ٢٠١٥

اعتاد كثيرون من سياسيينا ومفكرينا ومشكِّلي الرأي العام عندنا على الميل نحو التطرف في الأقوال والمواقف، ربما لأسباب تأريخية ونفسية وربما نتيجة الإحباط الذي تميزت به المسيرة العربية والإسلامية طوال القرون المتأخرة. من يشاهد الحوارات التلفزيونية والإذاعية والمقابلات الصحفية ويقرأ المقالات في الصحف أو يستمع إلى المحاضرات والندوات العامة يجد أن السياسيين والخبراء والعلماء وحتى المتخصصين يستخدمون عبارات متطرفة لا تعكس الواقع على الأرض مثل (كارثة) و(مأساة) و(حافة الهاوية) و(الإنهيار) و(الإفلاس) و(الفشل الذريع) و(السقوط المريع) و(التمرغ في الوحل) وما إلى ذلك.

وقد انسحبت هذه اللغة على الشارع أيضا وساهمت في تطرف الناس كثيرا لذلك نجد الآن أن معظم المعلقين من الناس العاديين أو غيرهم يميلون إلى التطرف في المواقف. ومما يؤجج العواطف ويزيد المواقف تطرفا هو الشعور الجمعي إذ يصبح المرء أكثر تشددا وتطرفا عندما يتحدث وسط الناس أو يشعر أن هناك من يسمع رأيه عبر التلفزيون، فتجده يذهب إلى أقصى حد. ولم ينجُ المحللون الاقتصاديون، الذين يجب أن يتحلوا بالعقلانية في تفكيرهم وتحليلاتهم، من هذا الوضع (الكارثي).

لماذا يا ترى نلجأ إلى هذه المواقف المتشددة والأوصاف غير الحقيقية والعبارات المتشنجة ونحن نعلم بأنها غير معبرة بشكل دقيق عن الواقع؟ فليس كل شيء عندنا (كارثيا)، مع أن التعبير الأخير غير صحيح لغويا، ولا نحن دائما نسير على (حافة الهاوية) ولم نفشل طوال الوقت (فشلا ذريعا) أو غير ذريع، ولم نسقط (سقوطا مريعا) ولم (تتمرغ أنوفنا في الأوحال أو الرمال) دائما وليس كل الناس فاسدين أو مفسدين أو أشرار وليس كل المسؤولين فاشلين وسراق ونصابين.

نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية تعيد العقلانية إلى خطابنا السياسي والإعلامي والأدبي والفكري. نحن بحاجة ماسة لأن نعيد حساباتنا وننبذ لغة التطرف خصوصا وأنها لا تعكس الحقيقة ولا تعبر عن الواقع في أكثر الأحيان بل هي تذهب بنا إلى واقع جديد علينا أن نخشى منه ونحاول أن نتجنبه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. هناك الآن اتجاه واسع بين المثقفين والسياسيين والاقتصاديين والمفكرين والفنانين وهو أن الدولة العراقية مفككة وضعيفة وأن المليشيات تحكم العراق وأن الدولة الآن فاشلة ومفلسة أو على وشك الإفلاس وإن الفساد (ينخر) في كل زاوية من زوايا الدولة والمجتمع. 

هذه أوصاف قاسية وليست دائما حقيقية ولا تعكس بصدق ما يجري على أرض الواقع، مع الاعتراف بوجود فساد وتلكؤ ومصاعب كبيرة في كل المجالات، وليس هناك دولة خالية من المشاكل. الدولة العراقية قائمة وهي ليست مفلسة إذ لديها موارد طبيعية وبشرية هائلة وبإمكاننا أن ننتشلها من المصاعب التي تعاني منها حاليا عبر نبذنا للفرقة والتطرف في المواقف والعمل من أجل الصالح العام بدلا من إضعاف الآخر وإفشاله. لدينا طاقات بشرية كثيرة وكبيرة في الداخل والخارج وبإمكاننا أن نستنفرها كي تساهم في البناء والإعمار والتصحيح.

نحن بأمس الحاجة إلى الواقعية في التفكير كي نتمكن من حل المشاكل التي نواجهها الآن أو مستقبلا. مشاكلنا لا يحلها الإنغماس في العواطف واتخاذ مواقف متشددة واستخدام عبارات قاسية وغير دقيقة. إن بقينا مستغرقين في التطرف فسوف نقع في المحذور ونساهم في إضعاف الثقة في الدولة وإفشال مشاريعها وإشاعة الفساد والفشل والفوضى. هذه دعوة متواضعة لكل العقلاء، وما أكثرهم، أن يفكروا قبل أن يتحدثوا وألا يستخدموا عبارات قاسية وشديدة ومتطرفة لأنها غير صحيحة أولا ويمكن أن توقعنا في المحذور ثانيا. عليهم أن يعلموا أن ما يقولونه مؤثر في المجتمع، ونحن بأمس الحاجة لأن نقف مع بلدنا لا ضده. 

 حميد الكفائي