محللون بلا حدود
مجلة الهدى- أيلول ٢٠١٥ 

كيف يمكن المرء أن يكون محللا؟ سؤال لابد وأنه يُطرح باستمرار ولكن ليس في العلن لأن معظم الذين يمتلكون الجرأة قد أصبحوا محللين وخبراء هذه الأيام وويحكم لو تجرأتم وقلتم إنهم لا يفقهون شيئا! كيف يكون ذلك وقد كتبت المحطة الفلانية مقابل أسم كل منهم “محلل سياسي” أو “محلل أمني” أو “خبير” في الشأن الفلاني. ولا أحد على ما يبدو ينفي هذه الصفة عن نفسه طالما أسبغها عليه مذيع حديث العهد بالعمل الإعلامي!!!

أتذكر أن محطة تلفزيونية عربية (مرموقة) طلبت مني التعليق عن الشأن العراقي وبعد أن جلست في مقعد التحليل وأُشبِكَت علي الأسلاك وربطت خطوط الإتصال في برنامج مباشر، بدأت المذيعة الجميلة تقرأ خبرا عن تركيا فظننت أنني غير معني بالأمر فقد كانوا قد أبلغوني أنني سأتكلم عن العراق. وبعد انتهاء الخبر والتقرير حوله، التفتت إلي المذيعة وقالت “معي الآن في الاستوديو الخبير في الشؤون التركية فلان الفلاني”! وبدأت تصيغ أسئلتها وتوجهها نحوي!!!! لكن المذيعة الجميلة القديرة رأت علامات التعجب واضحة على وجهي فأدركت حينها الخطأ الذي وقع فيه معد البرنامج فأخذت تتوسع بأسئلتها وتطيل بشرحها للموضوع ثم ربطته بقدرة قادر بالشأن العراقي لتتجه إلي بعد ذلك وتسألني “هل تعتقد أن هذا الحدث التركي يمكن أن يؤثر على الأوضاع في العراق؟ عندها تنفست الصعداء وبدأت الحديث…

نشاهد هذه الأيام محللين يحللون في كل اتجاه، فمرة تجده محللا سياسيا، وأخرى خبيرا أمنيا، وثالثة محللا استراتيجيا، ورابعة خبيرا اقتصاديا أو إعلاميا بل إن بعضهم يقدم على أنه “مفكر” دون أن يتحفنا يوما بأي فكر حتى وإن كان هزيلا. وفي وقت يتجه فيه العالم نحو التخصص الدقيق في كل مجال أصبح جماعتنا متخصصين في كل شيء.  

أتذكر أنني عندما بدأت الظهور في وسائل الإعلام الغربية قبل عقدين من الزمن تقريبا، كان الصحفيون الغربيون يحققون معي خارج الاستوديو لساعة أو ساعتين قبل أن يخصصوا لي دورا في برنامج. لماذا كل هذا الإعداد المستفيض؟ لأنهم حريصون على أن يظهر البرنامج على أكمل وجه ويكون مفيدا إلى أبعد مدى ومتميزا إلى أقصى حد. نعم هذه هي المهنية وهذا هو إتقان العمل الذي قال فيه النبي “رحم الله إمرئا عمل عملا فأتقنه”.

ما يعجبني في المحللين الغربيين أنهم حقا يعطون الموضوع حقه ويشبعونه بحثا بل تراهم يلمّون به من كل جوانبه. قبل أيام قرأت تحليلا لمحلل اقتصادي مرموق يتحدث عن اكتشاف الغاز في مصر وكيف أنه سيؤثر على الوضع فيها خصوصا وأنه سيجعل مصر أقل اعتمادا على واردات الغاز بل قد تتمكن من التصدير عند اكتمال تطوير الحقل المكتشف حديثا وكيف سيؤثر ذلك على صادرات الغاز الإسرائيلي. ثم ذهب هذا الخبير في تحليله إلى تساؤل قد يبدو خارج الموضوع قليلا وهو تأثير هذا الاكتشاف على وضع مصر التفاوضي مع شركات التنقيب العالمية عن الغاز في مناطق أخرى! قد يتساءل المرء لماذا يؤثر ذلك على وضعها التفاوضي مع شركات أخرى على حقول أخرى؟ بالتأكيد يؤثر لأن اكتشاف حقل كبير فيها يعني أن هناك إمكانية لوجود الغاز في مناطق أخرى مما يعني أن مصر ستكون في وضع أقوى مع الشركات الأخرى وبإمكانها أن تحصل على شروط أفضل من الشركات. 

ليسمع محللو آخر زمن الذين يأتون إلى الاستوديو دون سابق معرفة في الموضوع الذي سيتحدثون به بل ولا يهمهم الموضوع لأنهم كانوا قد حضروا عباراتهم الجاهزة التي عادة ما تبدأ بـ (كما تعلمون!) ولا أدري إن كنت تعلم أيها المحلل النحرير أنهم (يعلمون) فلماذا تتحفهم بمعلوماتك القيمة؟

حميد الكفائي