قانون الشبكة ليس فوق الدستور والقوانين الأخرى

المسودة المطروحة لمشروع قانون شبكة الإعلام العراقي التي ناقشتها لجنة الثقافة والإعلام في جلسة استماع الشهر الماضي والتي دُعي إليها العديد من الإعلاميين والمعنيين بالشأن الإعلامي، تشوبها التباسات ومكامن غموض كثيرة وتفتقر إلى الدقة في كثير من المواضع مما يجعلها حمالة أوجه وعرضة لتفسيرات مختلفة ومتباينة، هذا فضلا عن وجود بعض التناقضات الواضحة فيها وتركِها لبعض المجالات دون أن تقدم تفصيلاتٍ بشأنها ما يفتح الباب مستقبلا أمام الوقوع في مطبات ومآزق تنجم عن وجود تفسيرات واجتهادات شتى.

 وتتعارض هذه الثغرات في مسودة مشروع القانون مع الحاجة لأن يتسم القانون بالدقة والوضوح والشفافية من جهة، والشمولية والإحاطة والتكامل من جهة أخرى. ودعوني أتناول مواد القانون مادة مادة مع إهمال غير المهمة منها.

 المادة 1 أولا تحدد الاسم وهو شبكة الإعلام العراقي. إن كان لابد من استخدام هذا الاسم الذي اختاره الأمريكيون على عجل عام ٢٠٠٣ وترجم خطأ، فإنه يجب أن يكون “شبكة الإعلام العراقية” باعتبار أن صفة (العراقية) تعود على  الشبكة وليس الإعلام، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الشبكة ممثلة لكل الإعلام العراقي. شخصيا، اقترح أن يكون الاسم “هيئة الإعلام العراقية” أو “الهيئة العراقية للإعلام” وتكون هيئة مستقلة كباقي الهيئات المستقلة الأخرى وذلك لأهمية الإعلام في الدولة الديمقراطية.

 المادة 1/ثانيا تعرِّف وسائل الإعلام وتُدخِل ضمنها “الوسائل … الإلكترونية وأية وسيلة أخرى”. ليس واضحا إن كان ذلك يشمل المدوَنات (البلوغات) والصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وغير ذلك من الوسائل الحديثة مثل الإنستاغرام، والتانغو، والواتس أب والفايبر والفيسبوك والتويتر إلخ. يمكن القارئ أن يستشف ويفهم بأن فحوى هذه الفقرة يشمل كل هذه الوسائل المشار إليها وهي في الحقيقة وسائل تواصل بين الناس وليست وسائل إعلام رغم أنها تُستخدَم أيضا في الإعلام وبعض الناس يعتمدون عليها في الحصول على معلوماتهم لكنها ليست بالضرورة مهنية وتلتزم بقواعد مهنة الإعلام.

 وفي حال أن هذه الوسائل مشمولة في القانون، فإن هذا ينطوي على انعكاسات قد تكون مؤثرة على العاملين في الشبكة لأن القانون يحظر في الفصل السابع منه، والموسوم “تضارب المصالح”، على العاملين في الشبكة “الجمع بين وظيفتين أو العمل بأية صفة كانت في وسائل الإعلام غير المرتبطة (بـ) الشبكة (كذا)”. ‪ إن كان الأمر كذلك فإن هذا يفسح المجال أمام إدارة الشبكة لأن تمارس ضغوطا على موظفيها والعاملين فيها بخصوص تعليقاتهم المنشورة عبر تلك المواقع بحيث يمكنها منعهم من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي عبر باب “تضارب المصالح” في حال نشرهم تعليقات أو تغريدات أو مواد لا تعجب الإدارة أو أحد المسؤولين أو المتنفذين فيها. لذلك يجب التمييز، في ما يتعلق بهذا القانون، بين وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ووسائل النشر كالمدونات والمواقع الشخصية رغم التداخل الكبير بينها. مرة أخرى يجب ألا يتضمن القانون أي بند يقيد الحريات الأساسية للعاملين في الشبكة بل يمكن الاكتفاء بالقول إن على العاملين في الشبكة الالتزام بالمعايير المهنية وتعليمات الإدارة بخصوص استقلالية عمل الشبكة.

 وعلى رغم أن الآراء المعروضة في وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تخدش في استقلالية ومهنية مطلقيها، خصوصا إذا كانت تلك الآراء منحازة، لذلك يجب عليهم الحذر وعدم التصريح بآراء يمكن أن تؤثر على استقلالية عمل الشبكة، إلا أن الآراء تبقى آراءهم ولا علاقة للشبكة فيها لذلك يجب ألا يوضع أي قيد على حرية الأشخاص في القانون بل يترك الأمر لمهنية الشخص ورأي مديريه بأدائه مع احتفاظ الجميع بحقوقهم التي كفلها لهم القانون كمواطنين وموظفين. جدير بالذكر أن المؤسسات الإعلامية المستقلة لم تعد تمنع العاملين فيها من إبداء آرائهم على وسائل التواصل كالفيسبوك وتويتار، خصوصا إن كانت لا تخدش بمهنيتهم واستقلاليتهم ولا تفشي أسرار العمل أو تضعف موقف الإدارة والمحررين وباقي الموظفين.

  المادة 1/رابعا المخصصة لقواعد ممارسة المهنة تتحدث عن “جهات مرخص لها بتقديم خدمات إعلامية” فهل يعني هذا أن أي جهة تقدم خدمات إعلامية في العراق يجب أن تكون مرخصة؟ المعروف في العالم الحر أنه لا يوجد أي ترخيص للانتاج الإعلامي سوى إجراءات التسجيل من أجل يكون المنتج معروفا ومسؤولا عن نتاجه ويدفع الضرائب المستحقة على نشاطاته التجارية. الترخيص يعتبر قيدا لأن هناك من سيمنع الترخيص للجهة التي لا يتفق معها أو لا تخدم مصالحه أو مصالحة المجموعة التي ينتمي إليها لذلك يجب أن تلغى كل التراخيص المتعلقة بالعمل الإعلامي باستثناء الاستحقاقات المهنية لأن أي قيد على وسائل الإعلام يحد من قدرة المجتمع على معرفة الحقيقة وكشف الأخطاء والعراقيل التي تواجه المجتمع.

 المادة 1/سابعا تتحدث عن “التميُّز” وتوضحه بمعايير التفوق والاختلاف والحرص والإبداع والتجديد وتجنب التقليد والمحاكاة للبرامج التي تبثها الهيئات الإعلامية المماثلة الأخرى محليا وخارجيا. يجب ألا يقاس التميز بالتفوق على الهيئات الإعلامية الأخرى، خصوصا الخارجية منها التي تمتلك خبرات وإمكانيات مالية وتقنية هائلة، بل بإختلاف مواصفات المواد المقدمة بحيث تكون مختلفة. من المنطقي أن يُحدَّد التميز باحتياجات الجمهور بحيث تقدم الشبكة ما يتلاءم مع اهتمامات هذا الجمهور وعاداته وأنساق استهلاكه للمواد الإعلامية.

 المادة 1/تاسعا تُعرِّف الاستقلالية بتوفر “القدرة المالية والتحريرية والإدارية على ممارسة العمل”، ولكن الاستقلالية ليست توفر القدرة فحسب، وإنما في وضع القدرة موضع التنفيذ والعمل بعيدا عن النوازع الذاتية والانحيازات الشخصية وبشكل محايد. لذلك يجب أن تكون هناك معايير مهنية واضحة يُلزم العاملون بها ويتوقع المتلقون أن يروها أو يلمسوها في تغطيات الشبكة ونتاجها بشكل عام.

 المادة 1/عاشرا تتناول الشمولية ولكن مفهوم الشمولية المستخدم يركز على جانب عددي كمي من حيث إنه يحدد الشمول بالوصول إلى أكبر عدد من من المواطنين وشرائح المجتمع العراقي المختلفة في الداخل والخارج. ثمة جانب آخر للشمول يغفله هذا المشروع تماما وهو يتجسد بالتوازن والتكافؤ والتنوع الكيفي للبرامج من حيث أنواعها ومضامينها بما يحول دون الانحياز أو التحيز لطرف ما. بعبارة أخرى الشمول يعني أن تكون جميع مناحي الحياة، الثقافية والفنية والاقتصادية والاجتماعية، لجميع المواطنين مشمولة ببرامج ونشاطات الشبكة.

 المادة 2 تربط الشبكة بمجلس الوزراء وهذا  ينسف كليا الاستقلالية والعمل وفق مبادئ الشمولية والتنوع والتميز. كيف يمكن ضمان استقلالية الشبكة أو أي من الهيئات المستقلة الأخرى إن كانت مرتبطة بمجلس الوزراء؟ يجب أن ينص القانون على استقلالية سياسة الشبكة التحريرية عن أية جهة أو سلطة من سلطات الدولة وهذه من أساسيات الإعلام الحر ولا داعي للتوسع فيها.

 المادة 4 تفرض على الشبكة أن “تلتزم بالمبادئ والاتجاهات العامة للدولة وفقا للدستور” وهذه المادة أسوأ حتى من المادة السابقة وتطعن في صميم استقلالية الهيئة كمؤسسة إعلامية مؤتمنة على نقل الحقائق لجمهورها وفسح المجال أمام الرأي والرأي الآخر، بما في ذلك الرأي المعارض لسياسة الدولة. بالتأكيد هناك فرق شاسع بين الدولة ككيان سياسي ذي صفة معنوية والجهاز الحاكم فيها أو الحكومة. ولكن الخطورة تنبع من الخلط الشائع في بلداننا بين الدولة والحكومة وبين المصالح العليا للدولة ومصالح السلطة الحاكمة.

 ولا توضح هذه المادة من هي الجهة التي تضع المبادئ والاتجاهات العامة للدولة ما يفتح الباب على مصراعيه أمام فرض مفهوم السلطة الحاكمة للمبادئ والاتجاهات العامة للدولة على أنه يمثل الفهم الصحيح لتلك المبادئ والاتجاهات العامة للدولة. يجب أن تنص المادة على الالتزام بالمعايير المهنية والشفافية وقيم العدالة والانصاف في تغطية الأخبار والآراء والنشاطات المختلفة.

 المادة 6/ثانيا تضع للشبكة هدفا غير واقعي بحيث توجب عليها “تأمين توجيه خدمة البث العام والنشر والإرسال إلى جميع أبناء الشعب العراقي بكل مكوناته الاجتماعية وتياراته السياسية”. إن روح هذه المادة تفيد ضمنا مراعاة كل المكونات الاجتماعية والتيارات السياسية في العراق. وإذا ما كان أمر مراعاة كل المكونات الاجتماعية ممكنا، مع ما يشوب ذلك من صعوبات وإشكاليات، فإن مراعاة كل التيارات السياسية سيكون من المستحيلات وسرابا وحلما غير واقعي لا يمكن تحقيقه بل ويفسح المجال لمطالبات من شتى التيارات السياسية لفرض رؤاها ومصالحها على الشبكة وبرامجها ومضامين موادها وسياستها التحريرية.

    حميد الكِفائي