مجلة الهدى-آذار 2015
يقرن مثقفون كثيرون، بينهم الأكاديمي الدكتور عقيل عباس في مقال له أثار انتباهي، الثقافة بالقدرة على التحليل ويقولون إن الثقافة لم تعد مجرد الاطلاع على العلوم والفنون واكتساب المعلومات التاريخية والعلمية والادبية فحسب، بل يجب أن تقترن تلك المعلومات بالقدرة على التحليل لأن التحليل وحده يمكن أن يكشف عن مكنون المثقف وقدراته الثقافية، خصوصا وأن اكتساب المعلومات لم يعد حكرا على أحد بعد أن اصبحت متوفرة مع تطور وسائل الإعلام والاتصال الحديثة. نعم، القدرة على التحليل هي المقياس الحقيقي لقدرات الشخص وعمق الثقافة التي اكتسبها ويجب القول إن هذه القدرة ليست في متناول الجميع.

ومما يدعم هذا الرأي هو أن المعلومات المتوفرة في معظم المجالات متضاربة أحيانا مما يتطلب قدرة على التمييز بين الصحيح والخاطئ، أي تحليل المعلومات، وهذا فن اصبح مطلوبا في الكثير من المعاهد ومراكز الدراسات المرموقة والمؤسسات والمنظمات الدولية واصبح ممارسوه يكسبون أموالا طائلة من جراء قدراتهم التحليلية المتميزة. وفي الوقت نفسه فإن كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم متعلمين ومثقفين يهملون هذا الجانب وتجدهم يصدقون بأي معلومة تردهم حتى وإن جاءت من جهات تهدف إلى التشويش، خصوصا بعض الأطراف السياسية العربية التقليدية التي دأبت على التضليل وخلط الأوراق بدلا من التنوير والاعتراف بالخطأ وتفوق الخصم.

اتذكر أنني عملت قبل سنين في مؤسسة ضمت عددا كبيرا من الممارسين للثقافة وكانت المؤسسة تطلب أحيانا من القديرين فيها أن يكتبوا تقريرا في موضوع معين، وحدث أن طلب احد المبتدئين في المؤسسة من المدير أن يسمح له بإعداد “تحليل” لظاهرة ما… فوافق المدير (الجديد) على طلبه. فأخذ صاحبنا يبحث عن المعلومات من هنا وهناك كي يعد تقريره وتمكن في نهاية يوم عسير عليه أن يعد تقريرا قصيرا مهلهلا جمعه من هنا وهناك. وبعد أن قبلت المؤسسة ذلك التقرير، أخذ صاحبنا يمتدح نفسه في كل مناسبة ويردد قائلا (مو كل واحد يقدر يحلل ترا)! والحقيقة أن هذا القول (البليغ) مازال ينطبق عليه وعلى كثيرين في هذا الزمن الذي فاق فيه عدد المحللين عدد القادرين على القراءة والكتابة!

القدرة على التحليل تكشف لنا من هو المثقف الحقيقي القادر على الوصول إلى المعلومة الحقيقية عبر التحليل المبني على أسس مهنية، ومن هو الساذج الذي يجتر المعلومات التي تصله دون التمييز بين الغث والثمين أو معرفة المفيد من الضار. الغريب في الأمر أن كثيرين ممن يدعون المعرفة لا يمارسون التحليل مطلقا بل يقبلون المعلومة التي تأتيهم دون تمحيص. ولا ننسى أن بعض وسائل التضليل في عالمنا العربي أصبحت متمرسة في فن التضليل الذي قد ينطلي على كثيرين منا.

قبل فترة ارسل لي صديق مثقف ومطلع ولديه مؤلفات، معلومة وصلته وصدق بها. ويمكن إيجازها بما يلي: (ذكرت مجلة كذا التونسية على موقعها على الفيس بوك إن الحكومة الفلانية (أوروبية) قد أسقطت جنسيتها عن فلان الفلاني (سياسي عراقي) بعد أن اتضح أن شهادته مزورة)!!! قلت له على الفور إن هذه المعلومة كاذبة يا صديقي وعليك ألا تنشرها مهما اختلفت مع الشخص المعني بها. فرد علي قائلا: وكيف عرفت أنها كاذبة؟ قلت له كل ما فيها يشير إلى أنها كاذبة. فما علاقة مجلة تونسية بإسقاط حكومة أوربية جنسيتها عن مواطن عراقي؟ ثم ما شأن الحكومة الاوربية بصحة شهادة مهاجر اكتسب جنسيتها؟ ولو افترضنا أن شهادته مزورة فهذا لا يستدعي إسقاط الجنسية عنه. ثم لماذا تنشر تلك المجلة، إن كانت حقيقية، هذا الخبر على موقعها على الفيسبوك وليس موقعه الألكتروني مثلا؟

 للأسف فإن الفيس بوك متاح لكل من يريد أن يفتح حسابا وبأي اسم ودون التأكد من صحة هويته. ليست المشكلة في إخفاء الهوية ولكن في تزوير المعلومة وهذه مشكلة لابد وأن القائمين عليه سينتبهون إليها إن عاجلا أم آجلا. بعض المولعين بإيذاء الآخرين والافتراء عليهم، وما أكثرهم في بلادنا المبتلاة بالجهل، بدأوا يستخدمونه لتشويه سمعة (خصومهم) والإساءة إليهم.

من الضروري أن ينتبه أي منصف، خصوصا إن كان مثقفا أو متعلما أو مطلعا، إلى المعلومات التي يتلقاها ومن الضروري ألا ينجر وراء كل ما يصله وألا يصدق أنه قادر على تحليل كل شيء بمفرده، فهناك متخصصون في حقول المعرفة المختلفة، ويجب ألا ينصِّب أي منا نفسه عالما في كل شيء، وهذه ظاهرة أخرى تنفرد مجتمعاتنا بها. يجب أن يكون التحليل مبنيا على معلومات استنتجها متخصصون ومتابعون محايدون وليس على (ظنون مؤامراتية) يبدع كثيرون في بلداننا في إجادتها دون الانتباه إلى أنها مضرة بهم أكثر من خصومهم.