الغث والثمين عند السياسيين والإعلاميين
إيلاف – 11 أكتوبر 2006
يتوهم بعض السياسيين عندما يتوقعون أن الكلام العام مع وسائل الإعلام ينفعهم بشيء أو يحسِّن من صورتهم بين الناس. ويتوهمون أيضا عندما يطلقون تصريحات لا تغني أو تسمن من جوع ويتوقعون من وسائل الإعلام أن تنقلها عنهم، ومن الناس أن يستحسنوها أو يسعوا للتعرف عليها. وفي الوقت نفسه، يخطئ الإعلاميون الذين ينقلون أي مادة لا تقدم إضافة جديدة في مجال المعرفة والمعلومات، بل من واجب الإعلاميين المحترفين عدم تشجيع السياسيين غير القديرين أو الذين يتهربون من الإجابة على الأسئلة المطروحة، عبر نقل تصريحاتهم الخاوية والفارغة من كل معنى في وسائل الإعلام. ومن واجبهم أيضا فضح هؤلاء السياسيين وتعرية خوائهم وضعفهم أمام الناس كي يكون المتلقون على بينة من أمرهم، معهم ومع غيرهم.

المشكلة في العالم العربي هو وجود إعلام رسمي مستعد لنقل الغث والثمين ولا تعنيه المادة المفيدة أو الجديدة بل المهم بالنسبة له هو تغطية أخبار الحكام وإرضاؤهم من خلال وضع صور بارزة لهم في صفحات الجرائد وشاشات التلفزة ونقل المستحق من أخبارهم إلى جانب الخاوي وغير المفيد. فإعلامنا يمتلأ ببرقيات التهنئة والتعازي وحفلات الاستقبال والتوديع في المطارات التي يتخللها السجاد الأحمر وإطلاقات المدافع والتمر واللبن وأطفال يحملون الزهور وما إلى ذلك من خزعبلات. وقد طور كثيرون من العاملين في وسائل الإعلام الرسمية قدرات و”مهارات” تتلاءم مع هذه الأجواء الاحتفالية، وهناك متخصصون في إطلاق الكلام الرنان لكن الفارغ من أي محتوى أو معنى لملء الفراغ وإسعاد الحاكم وإشعاره بعظمته وضرورته للأمة التي لن تحيى دونه وأفراد عائلته وأصدقائه وأنصاره، فأطال الله في عمره وسدد خطاه ومتع الناس بطول بقاه ومتعه بطاعة مواطنيه.

أما السياسيون والمسئولون (وأنا هنا لا أتحدث عنهم جميعا) فلا يشعرون بأن عليهم أن يتعلموا قدرا من السياسة والحكمة والموضوعية أو يجيدوا مهارة سياسية أو اجتماعية، لأنهم يشعرون بأنهم ليسوا بحاجة إلى ذلك مع وجود إعلام يطبل لهم في كل المناسبات والظروف ولا يشعِرهم بالتقصير في شيء بل يختلق لهم الإنجازات والانتصارات. ونحن في الحقيقة لا نحتاج لأن نضرب مثلا محددا، لأننا نرى هذه النماذج من السياسيين كل يوم أمامنا في شاشات التلفزيون والإذاعات وعلى صفحات الجرائد والمواقع الأليكترونية.

قبل أسابيع أطلق أحد هواة السياسة والمناصب الجدد في العراق، الذي حصل على منصبه “المرموق” بفضل المحاصصة الطائفية وتهافته المنقطع النظير، تصريحا تناقلته بعض وسائل “الإعلام” الخاوية مفاده “أن قوة العراقيين تكمن في وحدتهم”!!! يا له من عبقري أعاد اكتشاف الجاذبية بعد ثلاثمئة عام على اكتشافها! طبعا لا ذنب للرجل فهو لا يعرف شيئا غير الذي قاله وهو ربما يعتقد بأن ما قاله مفيد وفريد ومبهِر، لكنه ذنب من عينه وقبل به، وذنب من نقل مثل هذا التصريح عنه ووضعه في نشرة الأخبار كي يُسيء إلى وسيلته الإعلامية وإلى متلقيه المساكين الذين يتلقون مثل هذا الكلام يوميا…

بينما أطلق سياسي آخر تصريحا ناريا آخر بعد أن أجرى مباحثات مع مسئول أجنبي زائر: “بحثنا العلاقات الثنائية بين بلدينا وسبل تعزيزها”!! وكأن الزائر الأجنبي قد جاء إلى العراق لبحث العلاقات بين الصومال وأرتيريا وسبل تأزيمها!!! أو لبحث المفاعل النووي في كوريا الشمالية وكيفية تفكيكه! وأضاف هذا المسئول قائلا: “إن تحسين العلاقات هو في مصلحة البلدين”!!! بينما أجاب سياسي آخر “محنك جدا” على سؤال أحد الصحفيين عن رأيه في مجلس الأمن الوطني المقترح فقال هذا العبقري لا فض فوه ولا عدمه حاسدوه: “إن كان هذا المجلس في مصلحة البلد فسوف نؤيده وإن كان ليس في مصلحة البلد فسنكون ضده”!!! يا لها من عبقرية فريدة ستوصلنا إلى أهدافنا بسرعة البرق دون شك… لكننا طبعا بحاجة إلى ملائكة السماء كي يكتشفوا لنا ما هي مصلحة البلد حتى نكون معها وما هو في غير هذه المصلحة حتى نكون ضده، لأن صاحبنا السياسي والمسئول “الكبير” لا يعلم أين تكمن المصلحة!

لقد ابتلت الساحة السياسية العراقية على وجه التحديد بالكثير من المتحدثين ومطلقي التصريحات الذين يتصور كل واحد منهم أنه منقذ هذه الأمة وعبقريها ومُخَلِّصُها، والمشكلة الكبرى أنه ليس هناك من يحاسبه على هذه التصريحات التي تتعارض أحيانا مع سياسة الحكومة التي يفترض أنهم يمثلونها. أحد السياسيين “الكبار” في الساحة العراقية، المبتلى بكثرة الكلام المبهم وإطلاق الطلاسم والألغاز، مغرم بإثارة أسئلة ثم الإجابة عليها، فهو غير معني بما يُطرح عليه من أسئلة، وهو بالإضافة إلى إجادته لفنون “الإبهار” بشتى الطرق، فهو أيضا يجيد تحريك شفاهه وعضلات وجهه ورقبته ورأسه وطبقات جبهته بأي اتجاه يريد، فهو يغمض عينيه أحيانا ليفتحهما رافعا حاجبيه بطرق مثيرة، مما يزيد من حيرة سائليه وسامعيه ومن “انبهارهم” بقدراته الفائقة وفنونه الإبداعية. الحركة الوحيدة التي لم أره يؤديها أثناء المقابلات التلفزيونية هي الصفير! وأعتقد أن هذا الشخص يجهد نفسه في ابتكار العبارات الغامضة والطنانة كي “يُبهِر” مستمعيه (وهذا هو المهم)، متوهما أن الناس ستعجب بما لا تفهم من الكلام.

ينسى هؤلاء السياسيون والمسئولون أن وسائل الإعلام الملتزمة والمحايدة تبحث عن مادة مفيدة وجديدة تنقلها إلى متلقيها لا عن كلام عام وبديهيات يعرفها طلبة المدارس الابتدائية! من منا لا يعرف أن “في الاتحاد قوة وفي التفرقة ضعف” ومن منا لا يعلم أن المسئول الأجنبي يأتي إلى العراق لبحث العلاقات مع العراق وليس مع بلد آخر!! وكل من يحسن الظن بالآخرين يعلم أن السياسيين جميعا يقفون مع أي إجراء يصب في مصلحة البلد وضد أي سياسة تضر به!!! على السياسي والمسئول أن يقدم شيئا جديدا ومعلومة مجهولة ومطلوبة يبحث عنها الناس كي تنقلها عنه وسائل الإعلام.

المسئول الذي لا يمتلك جديدا عليه أن يصمت حفظا لكرامته وحتى لا يفسد على الناس أذواقهم ويضيع وقتهم ويشغل وسائل الإعلام في كلام غير مفيد. عليه أن يوفر الوقت والمساحات الثمينة في صفحات الجرائد التي يمكن أن تُملأ بأمور أخرى أكثر أهمية وفائدة ومتعة للمتلقين. إن بعض المؤتمرات الصحفية التي تعقد في بغداد هذه الأيام هو أقرب إلى الاستعراض منها إلى تقديم المعلومات، وأنا أتوقع من وسائل الإعلام المحترمة أن تتجاهل الكثير مما يقال فيها في المستقبل، بل قد تتجاهلها كليا. بعض هؤلاء “المسئولين” يكاد يخبر الصحفيين حتى بقرار اختيار شاي الوزة من قبل دائرته بدلا من شاي ليبتون الذي كان مستخدما في عهد سلفه، فالهدف ليس تقديم المعلومة وإنما الاستعراض فقط.

الجانب الآخر من المشكلة هو مدى قدرة الإعلاميين على استخلاص المعلومات من المسئولين وأصحاب القرار، هناك عاملون في مجال الإعلام عندنا، وأنا هنا أتعمد ألا أسميهم إعلاميين، لأنهم ليسوا كذلك، خصوصا أولئك الذين لم يحصلوا على فرصة عمل أو تدريب في وسائل الإعلام المحايدة، لا يمتلكون القدرة على التحليل ولا الجرأة على طرح الأسئلة المهمة، هذا إن كانوا فعلا يميزون المهم من غيره، بل ولا يتابعون القضايا السياسية والأخبار التي هي في صميم عملهم. بعض الأشخاص يجرون مقابلات مع وزراء ورؤساء وزارات ورؤساء دول ولم يكونوا قد أعدوا لها ويظلون يبحثون عن معلومات وأسئلة في ثنايا المقابلة ويطرحون أسئلة ساذجة وغير لائقة أحيانا، بينما تفوتهم الأسئلة المهمة التي يبحث الناس عن أجوبة لها. وكثيرون منهم يبحثون عن شخصية أولا ثم يبحث بعد ذلك عن مواضيع لمناقشتها معها، بدلا من أن يفعل العكس.

وفي كثير من الأحيان يمطر السائل ضيفه بشتى صنوف المديح المخجل بدلا من طرح الأسئلة المهمة عليه واستخلاص الأجوبة لها. أما الأسئلة فهي تطرح في أكثر الأحيان لمصلحة الضيف وليس المتلقي، وأحيانا تطلق دون حساب أو تفكير. سمعت “إعلاميا” ذات مرة يطرح السؤال التالي على مسئول ودون أي مقدمات: “سيادة الـ… كيف تقيمون الأوضاع بشكل عام”!! ولا أدري أي أوضاع يقصد وأي معلومة كان يبحث عنها. بينما دأب “إعلامي” آخر على أن يسأل ضيوفه عن رأيهم في وسيلة الإعلام التي يعمل بها!!!! وهم للأسف يمطرونه بالمديح والإطراء غير المبرر والذي يعاد بثه باستمرار كإعلان مجاني في هذه الوسائل الإعلامية الخاوية التي تريد أن تقنع الناس بأنها جيدة وتقدم هذه الأدلة الضعيفة جدا على “حسن” أدائها…

العمل الإعلامي عمل شاق ويحتاج إلى مهنية وتفان ومتابعة وانغماس كلي في المجال الذي يعمل فيه الإعلامي، سياسيا كان أم اقتصاديا أم أي مجال آخر، ويتطلب جهدا هائلا من أجل أن يتمكن الإعلامي من موضوعه كليا ويكون مفيدا لمتلقيه ومنتجا حقيقيا للمعلومات. وسائل الإعلام مسئولة عن تدريب العاملين فيها والتأكد من أنهم يواكبون عجلة التقدم ويمتلكون المهارات والمعلومات الضرورية للعمل، تماما كمسئوليتها عن تثقيف المجتمع ككل وتقديم المعلومات له وإبراز خفاياه ومكامنه.

حميد الكفائي