العراق بين التوافقية والديمقراطية

  3 كانون الثاني 2011

 التوافقية هي إحدى مشاكل الديمقراطية لأنها تجرد النظام السياسي من المعارضة البرلمانية الضرورية لتقويم عمل الحكومة ومراقبتها، وتمنع حصول مناقشة حقيقية للقضايا الرئيسية التي تهم البلاد بسبب تركز المناقشات حول المحاصصة وتقاسم السلطة. 

 

ومن مشاكل التوافقية المستعصية أنها تهمل كليا معايير الكفاءة والخبرة والقدرة على النجاح عند اختيار الأشخاص لملء المناصب والمواقع الإدارية في الدولة لأن المهم فيها هو أن يحصل الشخص الذي يمثل الطائفة أو القومية أو الشريحة الفلانية على المنصب الفلاني ولا يهم كيف يدار هذا الموقع ونتائج هذه الإدارة.

فإن لم ينجح لن يستطيع أحد أن يزحزحه عن موقعه لأنه شغله باستحقاق الطائفة أو المجموعة التي يمثلها وليس بأهلية الخبير، ومازال هذا الاستحقاق قائما ومازالت تلك المجموعة تؤيد بقاءه، فإن شاغل المنصب سيبقى في موقعه رغم أنوف الآخرين، إلا إذا خضع لمنافسة من داخل المؤسسة الطائفية أو العرقية التي ينتمي إليها، وعندها سوف يستبدل بشخص مثله أو ربما أسوأ.

زعماء الطوائف وممثلوها لا يتبدلون مطلقا وهم زعماء مدى الحياة لذلك فإن جنبلاط وبرّي والجميِّل والحريري ودنكتاش وغيرهم باقون في مواقعهم مدى الحياة وعندما يغادرون الى العالم الآخر، بعد عمر طويل يفنونه عادة في عمل الخير، فإنهم سيورثون الزعامة لزعماء طوائف جدد، على الأغلب من إبنائهم أو أشقائهم أو أقاربهم، يسيرون على النهج نفسه ويتمتعون بالامتيازات نفسها التي تتحول إلى حقوق مقدسة بمرور الزمن.

لهذه الأسباب وغيرها لا يمكن أن يعتبر أي بلد ديمقراطيا وحرا إلا إذا تحرر كليا من الزعامات الطائفية والتوافقية السياسية التي عادة ما تسعى لإرضاء الزعماء فقط، على حساب مصالح المواطنين العاديين الذين لا يحصلون إلا على حكومات ضعيفة وغير كفوءة همها الأول تحقيق مصالح الكبار. تلجأ بعض الأنظمة السياسية إلى اختيار حكومات توافقية بسبب الخلافات العرقية والدينية والثقافية بين مكوناتها وبسبب ممارسة إحدى هذه المكونات في السابق سياسة التمييز ضد المكونات الأخرى.

في أوروبا لجأت هولندا وسويسرا، وهما نموذجان فريدان، للحكومات التوافقية في النصف الأول من القرن العشرين بسبب اختلاف مكوناتهما الثقافية والدينية والعرقية. هولندا تحررت كليا ومنذ زمن بعيد من النظام التوافقي وهي الآن تنعم بحكومة ديمقراطية حقيقية فيها معارضة فاعلة، وهي الآن تلعب دورا مهما في الاتحاد الأوروبي وليس هناك من يتبنى سياسة عرقية أو دينية أو يسعى لتمثيل الثقافات الفرعية.

أما سويسرا فقد تبنت نظاما أكثر تعقيدا ساهم في ترسيخ الفروق الثقافية في البلد عبر تقسيمه إلى كانتونات منسجمة ثقافيا ودينيا… وقد ساهم التاريخ والجغرافية بهذا التقسيم وليس فقط الثقافة والسياسة… فالكثير من المناطق في سويسرا كان فيها تركيز ثقافي وانسجام ديني لقومية معينة، كأن يكون الكانتون ألماني بروتستانتي أو ألماني كاثوليكي أو فرنسي كاثوليكي أو إيطالي كاثوليكي وهكذا…

ورغم أن الفروق الدينية لم تعد مهمة عند الشعوب الأوروبية منذ انتهاء عهد حكم الكنيسة قبل مئات السنين، وهي تحيا حياة علمانية حرة يتمتع فيها المتدين وغير المتدين بالحرية الكاملة ولا يسمح لأحد أن يفرض أفكاره أو دينه على الآخر، إلا أن التسميات الدينية تبقى متداولة في الأنظمة التوافقية حتى عند التخلي عن تحكيم القيم الدينية في المجتمع، أي أن سياسة التوافق تقود إلى تعميق التفرقة الدينية والقومية وترسيخها وإدامتها.

يمكن القول إن معظم دول العالم متنوعة دينيا وعرقيا ومذهبيا وبالتأكيد فكريا وسياسيا، لذلك فإن التحجج بأن النظام التوافقي ضروري في مرحلة معينة لم يعد مقنعا لأحد والمراد منه تمرير أجندات شخصية وحزبية. أسباب تمسك البعض بالطائفية والتوافقية هي شخصية بحتة، لأنها توصل متبنيها إلى مواقع لا يحلم بها، وهناك من أصبحوا زعماء ووزراء وقادة وهم لا يتمتعون بالحد الأدنى لمواصفات القيادة، والأسوأ من ذلك أنهم يصرون على البقاء في الساحة رغم فشلهم وعدم قدرتهم، لكنهم متمكنون من البقاء بسبب حصولهم، عبر التوافقية والمحاصصة، على موارد مالية كبيرة.

الحكومة العراقية الأخيرة لا تبدو قادرة على النهوض بأعباء الدولة الحديثة، وقد جاء أول نقد لها من رئيسها ومشكِّلها نوري المالكي الذي قالها بصراحة إنها دون طموحه. ولا نعرف ما هو طموحه تحديدا؟ فهذا يخضع للتأويلات المختلفة، فهل كان يريد حكومة من حزب واحد مثلا؟ أو توجه سياسي واحد. أو طائفة واحدة، مطعَّمة بشخص (مطيع) من هنا وآخر من هناك، لكننا نعرف أنه تمسك بالسلطة والمحاصصة والاستحقاق الطائفي رغم حصول قائمته على الموقع الثاني في الانتخابات. فأية حكومة يتوقع السيد المالكي عندما يتمسك الشركاء السياسيون بمبادئ غير ديمقراطية يعرفون مسبقا أنها لن تقود إلى أي تقدم سوى تقدمهم الشخصي على حساب الشعب العراقي الذي خضع لعملية تضليل واسعة في الانتخابات الماضية جعلته ينتخب على أسس لا تمت بصلة لمصلحته؟

ليس من العدل أن نحكم على الحكومة المقبلة قبل مرور فترة من الزمن على أدائها، لكننا نعلم أن الأسس التي شكلت على أساسها غير سليمة وأن بعض أعضائها ليسوا أهلا للمواقع التي وضعوا فيها… الجميع يتمنى للحكومة النجاح، لكن التمني قلما يؤدي إلى نتيجة تُسِر أحدا، بينما الإجراءات العملية وفق الأسس العلمية هي وحدها الكفيلة بتحقيق نتائج ملموسة تحقق مصالح البلاد وتنقلها إلى مرحلة جديدة.