هناك ملايين العراقيين الذي غادروا بلدهم خلال العقود الأربعة المنصرمة بسب الدكتاتورية والحصاروالظروف الصعبة التي مر بها العراق، ولم يعد منهم إلا قلة قليلة، أما الغالبية فمازالت تعيش في بلدان المهجر المختلفة من إيران والهند والخليج شرقا إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا غربا. بعضهم يتمنى العودة ويأمل أن يحصل ذلك عندما تتحسن ظروف العراق ويصبح كالبلدان التي يعيشون فيها أو قريبا منها، وهذا لن يحصل في المستقبل المنظور، أي أنهم لن يعودوا. مهاجرون آخرون مستعدون للمجيء شريطة أن يلعبوا دورا في الإعمار والبناء وأن تساعدهم الدولة في تسهيل إجراءات العودة والعيش في مستوى يقارب مما اعتادوا عليه في بلدان المهجر. البعض الآخر عاد وعاش في الداخل مقاسما أخوانه شظف العيش زاهدا بحياة هانئة هادئة في الخارج.

عراقيو المهجر مصدر مهم من مصادر قوة العراق وتقدمه وتواصله مع العالم، خصوصا أولئك الذين يقيمون في بلدان أوروبا وأمريكا التي تؤثر سياسيا واقتصاديا في معظم بلدان العالم إن لم تقل كلها. العراقيون الأمريكيون والكنديون والأستراليون والأوروبيون هم مكسب حقيقي لنا نحن في الداخل وعلينا أن نعرف كيف نستثمر وجودهم هناك. ولأني كنت أحد الذين هاجروا بسبب الاضطهاد السياسي والإنساني في العراق في عهد الدكتاتورية فإنني أعرف جيدا أهمية هذه الشريحة من المجتمع العراقي ومدى فائدتها إلى بلدها الأصلي لو احسن استثمارها واوجدت الحكومة برنامجا عمليا للاستفادة من خبراتها واستثماراتها في الداخل ومن تأثيرها ونفوذها في الخارج وتواصلها مع الداخل.

مشاعر عراقيي الخارج تجاه العراق لا تُضاهى ولا يعرفها إلا من عاش الغربة وصعوباتها. والأمر الأغرب هنا هو أنه كلما كانت حياة العراقي المهاجر هانئة ومرفهة ازداد حنينه والتصاقه ببلده ورغبته في العودة والمشاركة في بنائه وقد عاد فعلا كثيرون من هؤلاء. وعراقيو الخارج لا يهتمون كثيرا للفروقات الطائفية والعرقية التي نلمسها أحيانا في الداخل، فبالنسبة لهم العراق بلد واحد وشعبه واحد ولا فرق بين أبنائه، رغم تأثر بعضهم بما يحصل في الداخل من نشاطات.

أحد هؤلاء العراقيين الذين هاجروا منتصف السبعينيات للدراسة في الولايات المتحدة هو الدكتور علاء فائق، المتخصص في المسرح… وحينما أكمل دراسته، كان النظام الدكتاتوري قد رسخ أقدامه في العراق فقرر البقاء في أمريكا وأخذ يعمل في القطاع الخاص وفي مجال بعيد عن تخصصه. لكن علاء، كباقي العراقيين المهاجرين، ظل متعلقا بالعراق، يدرس تأريخه وفنه وحضاراته ورجالاته وقدراته. التقيته في أمريكا أيام المعارضة للنظام البائد. لم يبهرني في بادئ الأمر لأنه بدا حالما وغير واقعي. لكنني بمرور الزمن اكتشفت أن علاء أقرب إلى الواقعية مني. 

وأول مرة انتبه له بها هي عندما رأيته يدافع في إحدى المناسبات العامة عن طقوس عاشوراء التي تمارس في العراق بعد أن انتقدها البعض فكان علاء يبررها باعتبارها ممارسات ثقافية عراقية، إلى جانب كونها شعائر دينية يؤمن بها ممارسوها. حينها، أراد أحد الحاضرين أن يسدي له نُصحا، فأخذه جانبا وقال له يا علاء، علينا “نحن الشيعة” أن نخفف من حماستنا في الدفاع عن طقوس تبدو غريبة للآخرين! فقال له علاء: يا هذا إنني سني ولست شيعيا! إنني أدافع عن العراق وهذه طقوس عراقية ومن يمارسها عراقيون يستحقون أن أدافع عنهم وأخذ يشرح له الجانب الثقافي فيها 

سقط النظام وعدنا إلى العراق أنا وعلاء معا وعندما دخلنا الحدود من الكويت في الخامس عشر من نيسان ٢٠٠٣ وبلغنا أم قصر، أوقفنا السيارة ونزلنا نتفحص البلد الذي فارقناه مضطرين لعقود. من شدة فرحي، تسلقت نخلة وشممت رائحة طلعها المتفتح على التو، ومن فوق النخلة رأيت علاء يصلي على الأرض شاكرا الله على العودة. 

عملت مع علاء وزملاء أعزاء آخرين في وضع اللبنات الأولى لشبكة الإعلام العراقي. وقد وجدت علاء، المثقف والفنان والأستاذ الجامعي ورجل الأعمال الناجح، يؤدي مهام بسيطة وكان يؤديها إلى جانبه أشخاص لا يتمتعون بأي من قدراته.”. 

أخذ إعجابي يزداد بعلاء وسمو أخلاقه ووطنيته وإنسانيته المفرطتين. وبعد مغادرتي شبكة الإعلام إثر اختلافي مع القائمين عليها في تلك الفترة حول أسلوب وطريقة الإدارة، قررت التفرغ لتنظيم المؤتمر الدولي حول الإعلام الحر في أثينا… شارك علاء في مؤتمر أثينا لكنه عاد إلى بغداد وأخذ يعمل في أي موقع أو مهمة يكلف بها مهما كانت بسيطة فلم يتكبر على عمل أو واجب رغم تحصيله العلمي العالي وتجربته الثرية.

بقينا على اتصال بعد مغادرتي وقد أخذ يحثني على العودة إلى العراق مرة أخرى وكان هدفه من ذلك وطنيا بحتا. وعندما عدت إلى بغداد بعد أشهر قليلة من المغادرة، أخبرني علاء: “لقد عدت إلى بيتي القديم وأنا الآن أقوم بترميمه كي أتمكن من العيش فيه مجددا وامضي فيه ما بقي من حياتي”. فرحت حينها لفرحه وسعادته. 

إلا أن علاء، حزم حقائبه وعاد فجأة إلى أمريكا بعد عام من وجوده في العراق ولم يعد منذ ذلك الوقت. عاد ليعيش ويعمل في أمريكا رغم أنه لم يتخلَ عن العراق فكل عمله كان عن العراق ومن أجله. أتذكر أنه اتصل بي ذات يوم وكنت حينها في لندن قائلا إن المؤسسة التي يعمل فيها قررت إيفاده إلى لندن في مهمة وقال إنه سيقيم معي من أجل ان نتواصل من جديد وكذلك ليوفر على الشركة كلفة إقامته في فندق. ولكن، لصدفة لا تحدُث إلا في الأفلام الهندية، فإن مؤسسة أمريكية دعتني إلى واشنطن في الفترة التي بعثته فيها مؤسسته الأمريكية إلى لندن فاضطر علاء أن يقيم في فندق ويدفع كلفة إقامته من جيبه لأنه كان قد أخبر الشركة بأن إقامته ستكون مع أصدقاء ولم يرغب أن يعود عن كلامه السابق. ولحسن حظي، فلم أمضِ في واشنطن طويلا إذ عدتُ قبل مغادرته لندن والتقينا ليومين أو ثلاثة على ما أتذكر. 

نزاهة علاء وزهده بالمواقع والمناصب منقطعا النظير وحرصه على المال المؤتمن عليه، عاما كان أم خاصا، لا يضاهيه حرص وهناك عراقيون كثيرون من أمثاله يعيشون في الخارج حاليا فما أحوجنا إلى خبراتهم ووجودهم معنا في هذه الظروف الصعبة. أتمنى من أعماقي لو وضعت الحكومة برنامجا عمليا يعيدهم إلى العراق خصوصا وأن هناك الآن وزارة مهتمة بشؤون المهاجرين والمهجرين. يجب أن نعمل على إعادة هؤلاء الوطنيين إلى العراق، أولا من أجل لم الشمل العراقي وثانيا من أجل أن يساهموا معنا في تطوير العراق وتقدمه  

لقد حثني علاء على العودة إلى العراق عندما غادرت عام ٢٠٠٣ وقد عدتُ بمساعدته في العام نفسه وها أنذا الآن أحثُّه وأحثُّ غيره على العودة، وأملي أن يعود كل الوطنيين العراقيين من خبراء وأكاديميين وأطباء ومهندسين ورجال أعمال وفنانين وأدباء كي يساهموا في دعم أهلهم وبناء بلدهم. نعم ظروف العراق الحالية صعبة ولكن العراق يستحق التضحية.