فلنزرعْ الورد

لم تعرف غير الحب 
ومن أجله سلكت طريقَ التسامح والصفح
قلبُك اتسع لجميع الناس 
من كل ألوان الطيف
لم تُفرق بين أخٍ وصديق
أو صديق أخ وأخِ صديق
أو صديقِ صديق
غمرتهم جميعاً بحبٍ لم يألفوه
أكرمتهم بسخاء لم يعهدوه
حولت المسيئين منهم إلى محسنين
أحسنت بكل من مر بطريقك
فكلهم أحباؤك
كنتُ محظوظاً أنني ولدتُ بعدك
فالسنوات الست التي تفصل بيننا كانت حاسمة لصالحي.

مكّنتك أن تغدق علي حباً وصفحاً وكرما، وجعلتني أنعم بها جميعاً

تلك السنوات الست التي بيننا قد صنعتني

وخلقت لي مثالاً في الحياة

وعلّمَتْني أن سلاحَ الحب أمضى

لم أكن دائماً أشعر بحظي السعيد الذي أسبغته عليّ

فلولاك ما تعلمتُ او علّمت

ولولاك ما نجوتُ من سني الجمر

منحتني الثقة بالنفس والمستقبل

وكلَ ما تملك

ودَّعتني في يوم ربيعي عراقي مشمس قبل أكثر من ثلاثة عقود

وأهديتني اخر ألف دينارٍ لديك

حينها كانت الألفُ دينار تبني منزلاً

فوضعتُها في حقيبة دبلوماسية حمراء كنتَ أنتَ قد اشتريتها لي

يومها كنت ارتدى اجملَ ملابسي:

بدلةً جوزيةَ اللون كنتَ أنتَ قد أهديتَها لي

ودعتَني عند جسر الرميثة الوحيد

ذات الجسر الذي عَبره الثوار في العشرين بعد تحريرهم شعلان أبو الجون من سراي الحكومة المجاور

عانقتني وكنتَ حزيناً

لأننا على وشك الافتراق

وكنا نعلم أنه سيطول

فالأشرار لن يدعونا نلتقي

وحين عدتُ الى بغداد بعد عقدين ونصف

هرعتَ إلى لقياي

وكنتَ أول من استقبلني مع أولادك الذين ولُدوا في غيابي

وولدي أخيك اللذين حسبتَهما ولديّْك

احتضنتني فجراً بحرارة وشوق عميقين

كانت سعادتك بعودتي أكبر من سعادتي بها

صمدتَ معي في الزمن العراقي الصعب

حتى كدنا نموت معاً في المدائن بعد عام من عودتي

لكن أجلُنا لم يكن قد حان بعد

فيقظة “غالب” انقذتنا من خطة قتل استهدفتني

وما كانت لتتركك حياً

“أبا علي!”

مُذ أصبت بمرضك العضال قبل عام وعيني اليمنى تتدفق دمعاً

قال الطبيب إن قناة تصريف الدمع فيها لم تعد سالكة

وإن عليَّ أن اخضع لمبضع الجراح كي يتوقف الدمعُ عن الجريان

ولكن هل حقاً أنني الآن بحاجة لذلك؟
بعد ان ودَّعت أنت الحياة دون أن تودِّع أحدا؟

سأدعها تدمعُ مع اليسرى

أخبرتَني قبل أيام أن صحتَك تتحسن

فهل كنت تُخفي الحقيقة؟

ربما!

سأغفرها لك لأنها المرة الاولى

وكانت الأخيرة

فأنت لم تتكلم بعدها

عندما عدتَ إلينا من بيروت قبل شهر

وقد شفيت من المرض

أو هكذا ظننا

أقمنا لك في مويلحة عرساً بهيجاً

جاء إليه اصدقاؤك وأصدقائي

ليهنئوك ويهنئوني

كان عرساً سعيداً بحق

أكرَمَتنا فيه السماء بقطرات ماء ندية

ابتلت بها الارض

لكنها لم تُعِق الاحتفال

كنا مبتهجين بسلامتك

وكنت في أسعد لحظاتك وأنت ترى الأصدقاء يحتفون بك

جاءوا من البصرة والناصرية والسماوة والنجف والديوانية وبابل وبغداد

حتى “باسل” جاء من لندن ليحضر العرس

احتفلنا وابتهجنا ولم نكن نعلم أنه العرسُ الاخير

“حسن!”

أخاطبك هكذا، كما كنتُ أفعل ستين عاماً إلا ستة

لقد غادرتنا مبكراً

ولأول مرة تجعلنا نحزن

كنا نأمل منك أعراسا أخرى

تحضرُها أو تقيمُها

فهذه هي عادتك

“باسل” كان يتوقع منك أن تقيم له عرساً

ألم تعِدْه بذلك؟

“طالب” أقام لك عرسك الأخير

وكان يأمل ألا يكون الأخير

“قاسم” كتب لك قصيدته الاولى

مجيد حلّق من أجلك في رحلته الجوية الأولى

“علي” أقام نهاراً وليلا بجانبك

“غالب” حرسك ليلاً ونهارا

“خالد” انتظر عاما كي تزفّه إلى عروسه

“مالك” رافقك في رحلتك الاخيرة

وكان كله أمل أن تعودا معاً الى “مويلحة” لتحتفلا بعرسٍ جديد

علياء عاتبة عليك أنك لم تمهلها لتقضي شهر العسل

وعُلا هي الأخرى تعتب

فقد رسمت أن تزورك في الربيع

فأي ربيع سيكون في غيابك

أما أنا يا رفيق دربي

وحبيب قلبي
فسأحيى على الذاكرة 
سأتذكر الايام البهيجة 
والأحداث الجميلة 
وهل كان فيك غير الجمال؟

سأتذكر أنك انقذت حياتي من الغرق في نهر الرميثة

ولم أكمل حينها سنواتي العشر
وسأتذكر أنك اعدت دراجتي النارية الى بائعها 
ودفعت له كي يعيدها، حرصاً منك على سلامتي 
وسأتذكر أنك سهلّت طريقي إلى الحياة
وأبعدتني عن الخطر الداهم 
فأنقذتني من موتٍ كان وشيكا
ذاكرتي مليئة بأفضالك “أبا علي”.
 
سألتْني “عُلا “: أيُ الاسماء أحَبُّ لديك؟” 
فأجبتها دون تردد: “حسن”
فقالت “لأنك تُحِبُّ أخاك 
تحية لأبيك الذي سمّاك
فكلك حُسنُ وجمال
أعلم أن الحياة دونك لن تكون سعيدة أو جميلة
فقد كنت أنت مصدر السعادة والجمال 
لكني سأسعى لأجعلها سعيدة 
سأقيم لك أعراساً في مخيلتي
سأرسم لك قصراً بحدائقَ غنّاء
تجلس فيه على أريكة وثيرة 
قرب بركة عامرة بالطيور 
يحيطها الورد الذي يراقص النسيم العليل
سأتخيلُك بعِقالك ويشماغك المتألقين
وملابسك البيضاء الناصعة
التي تعكسُ صفاءَ روحِك
ونقاءَ سريرتِك 
سأبقى أتخيل
وأتفكر 
وأتدبر 
وأتصور 
وأتذكر
وأذكِّر كل من أحبك 
أنك لا تريد حزناً 
ولا بكاءً 
ولا رثاءً
سعادتُك أن ترى الآخرين سعداء 
فمن أراد ان يكون وفياً لذكراك 
فليزرع الورد
وينشر السعادة.

حميد الكفائي

بغداد 9/3/2013