الشرق الأوسط، 9 آذار/مارس 2010
بصرف النظر عن التكتل الفائز في الانتخابات العراقية، المالكي أو علاوي، فإن المؤشرات الأولى، إلى ساعة كتابة هذا المقال، تشير إلى استحواذ إياد علاوي على أصوات المحافظات السنية العربية، والمالكي على أصوات المحافظات الشيعية العربية أيضا، أو بلغة الجغرافيا، أخذ علاوي غرب العراق وبعض شماله، وأخذ المالكي جنوب العراق وكثيرا من وسطه وبقي الصراع على جوهرة التاج العراقي بغداد.
ربما يفوز المالكي بأغلبية الأصوات، وربما علاوي، لكنه سيكون للاثنين فوزا بشق الأنفس.
 
أبرز ما يلفت النظر في البرامج الانتخابية للقوائم المتنافسة هو التغني بالوحدة الوطنية ونبذ الطائفية، وللعلم فإن قائمة علاوي، وهو العلماني الشيعي، تضم شيعة محافظين، وقائمة المالكي، وهو الإسلامي الشيعي، تضم رموزا سنية من الغرب العراقي، وأيضا تشكلت قوائم جديدة انسلخت عن القوائم الموجودة دون أن ترى، كمراقب، اختلافا «منهجيا» في البرامج والرؤى، مثل انسلاخ قائمة المعمم الليبرالي إياد جمال الدين عن قائمة علاوي، إلا أن يكون المبرر هو التنافس والطموح الشخصي، وهذا أمر عادي ومفهوم في طبائع النفوس وأجواء السياسة.
 
مما يلفت النظر أيضا، سهولة تنقل شخصيات سياسية من قائمة إلى قائمة أخرى منافسة دون أن يرف لها جفن أو تخشى من أسئلة قاعدته الانتخابية عن مغزى هذا التحول وسبب هذه الرحلة، كما يلاحظ ذلك بذكاء الكاتب العراقي حميد الكفائي في مقالته الأخيرة بجريدة «الحياة».
 
وهل يرجع ذلك إلى مجرد الشغف الشخصي بالوصول للسلطة أو الاشتراك فيها بصرف النظر عن وضع اعتبار لأي رؤية سياسية أو برنامج مستقبلي حقيقي، أعتقد أن تفسير هذه السماحة العالية من الجمهور في تقبل قفزات الزعيم يكمن في «هشاشة» الثقافة الوطنية في العراق وفي العالم العربي كله، وطبيعة التحزبات الغرائزية التي تتحكم بالجمهور وتجعله يغطي تحركات زعيمه الطائفي أو العشائري أو الحزبي، يولي معه وجهه أينما ولى الزعيم وجهه، فهو بالنهاية، أي الزعيم، إنما يناور ويتحرك ويغير الشعارات لأجل حماية جمهوره الغرائزي، وما الشعارات والسياسات والأفكار إلا أدوات تستخدم والغاية واحدة هي صون مصالح جمهور الزعيم، وهذه المصالح تتلخص بعقلية الغنيمة والغزو والسيطرة على القدر الممكن من كعكة السلطة أو الكعكة كلها إن أمكن ذلك!
 
وها قد رأينا في لبنان، العشائري الطائفي، كيف أصبح «وئام وهاب» ملاكا يتحدث لغة غاندي ويدعو للسلم والوئام، وينثر هبات المودة على خصومه متعاليا على الجراح! وهو الذي كان المدفع اللساني ومستخدم لغة الدمار الشامل ضد خصوم سورية وإيران، ورأينا كيف انقلب وليد بك جنبلاط، هاتك قدسية حزب الله، والمهدد بحرق الأخضر واليابس على عملاء إيران وسورية، يعود اليوم ليزايد على عتاة حزب البعث في لبنان وعتاة الحرس الثوري في الضاحية وجنوب لبنان، قل مثل ذلك عن أغلب الزعامات الأخرى، والمذهل أن جمهور هؤلاء لا يجدون أي ألم في لي أعناقهم ذات اليمين وذات الشمال حسب ما يلوي الزعيم عنقه!
 
لسنا نتحدث عن ضرورات البراغماتية ورشاقة الحركة السياسية، وأن التكتيك يقتضي مرونة، لكن الأهم بقاء الجوهر.. إلخ هذه الرطانة، بل نتحدث تحديدا عن سيلان هذا الجوهر وفقدانه، فعن أي جوهر نتحدث إلا جوهر اللاجوهر!
 
لا سياسة في العالم العربي، بوصف السياسة هي الغلاف الخارجي لخدمة الاستراتيجية الوطنية أو القومية، هناك فهلوات شخصيات سياسية تضحك على جمهورها من أجل البقاء في خيمة القوة والنفوذ، ولأن قوة أي زعيم يحددها «وزنه» في الجمهور وما لديه من عدد ونفر وشوكة، فإنه «يربي» هذا الجمهور ويسمنه من أجل اللحظة الموعودة، إن كانت هذه اللحظة انقلابا على النظام السابق ووثوبا على السلطة فسيكون الجمهور هم وقود وجنود هذا الانقلاب، وإن كانت اللحظة الموعودة عبر صندوق الاقتراع فيساق هذا الجمهور للصندوق، صندوق الزعيم.
هل الشخص المصوت لهذه الدرجة ضائع الفردية والاستقلال في الرأي؟
 
قبل ذلك لنسأل: من هو الشخص المصوت؟ نتحدث عن العراق بما أنه البلد الذي تجري فيه انتخابات يقال بأنها مصيرية.
 
لا يوجد وصفة واحدة لشخصية هذا الناخب السياسية، نعم هناك «كتل» صوتية مضمونة بحكم العصبية السائدة، ولكن هناك كتل صوتية رجراجة، والمثير للانتباه هو تحول الصوت السني العربي من الرهان على الخطاب الأصولي المظفر بنكهة «حارث الضاري» أو غيره من الصقور السنية، إلى تبني خيارات علمانية الدولة، واصطفاف هذا الصوت خلف رجل العراق العلماني الشيعي إياد علاوي، هذا أمر يستحق التوقف عنده، هل اكتشف سنة العراق أن النظام العلماني اللاطائفي هو الخيار الأمثل لهم في بلد يفور بصراعات القرون الخالية وصيحات طائفية؟
لماذا علمانية الدولة ومنطق الوطنية يصبح جيدا للسنة في العراق ولا يصبح جيدا لسنة آخرين في بلدان عربية ومسلمة؟
 
لماذا تحول الشيعي العراقي، لنقل في هذه اللحظة من التوتر الطائفي، إلى ديمقراطي عتيد؟ أو كائن ديمقراطي كما يعبر الكاتب والسياسي العراقي حسن العلوي؟ بينما لا نراه بذات الروح الديمقراطية المعترفة بالأغلبية في لبنان مثلا؟ حيث هزم تحالف حزب الله ومن معه في الانتخابات النيابية لصالح خصومه، ومع ذلك فقد جعل حزب الله نتيجة الانتخابات كأن لم تكن، وبدأ يتحدث عن «خصوصية» في ديمقراطية لبنان تقوم على التوافق لا نتائج الأغلبية والأكثرية؟ في ذات اللحظة التي نرى فيها نوري المالكي في العراق يتحدث عن وجوب الاعتراف بالأكثرية الديمقراطية والحكم الأغلبي؟
 
لنخرج من إطار الشيعة حتى لا يفهم البعض، كالعادة، أن الغرض هنا تزكية طائفة على حساب أخرى.
ينبه حسن العلوي في لقاء تلفزيوني شاهدته مؤخرا إلى أن مسلمي الهند، قبل أن ينفصل كثير منهم بباكستان، كانوا ضد فكرة الأغلبية الديمقراطية بحكم غلبة العنصر الهندوسي على العنصر المسلم، ومن هنا خرجت تنظيرات المودودي التي تكفر بالديمقراطية وتصفها بالحكم الجاهلي وأن «الحاكمية» هي حاكمية الله وليس الإنسان.. إلخ الرؤية المودودية المعروفة التي انتقلت بشكل مأزوم إلى العالم العربي عبر سيد قطب. لكن هل لو كان المسلمون هم الأكثر عددا في الهند لكانوا هم الأكثر حماسة في المطالبة بالديمقراطية العددية؟
 
التغني بالديمقراطية بشكل رومانسي والمراهنة عليها بشكل إيماني قطعي ليس أمرا مناسبا في هذه المنطقة من العالم، حيث ما زلنا عالقين في رمال الماضي.
صحيح لدينا ديمقراطيات وتصويت وانتخاب، لكن هذا على السطح فقط. الفكرة هي أنه لا توجد ضمانات دستورية ولا ثقافة عامة تحكم الجميع وتجعل الثقة بتداولية السلطة والأهم «مدنية» الدولة، ومبدأ المواطنة كأساس يقف عليه كل المجتمع، تجعل هذه الثقة موجودة ونهائية ولا يمكن الرجعة عنها، ولذلك فإن الجميع يتعامل مع الديمقراطية بطريقة حذرة وانتهازية وتكتيك «انهب واهرب»!
 
على الرغم من هذا كله، فإن ما يجري في العراق ملفت للانتباه وأهم ما فيه أنه أصبح من الواضح أنه لا يمكن إقصاء طرف لطرف، لا الشيعة ولا السنة، فهؤلاء هم أعمدة العراق التاريخي، يبقى أن ينسى الجميع حكاية الانتماء «القدري» للطائفة وأن يفكروا بالانتماء الوطني المدني، وهذا ما يبدو أنه المناخ السائد في العراق هذه الفترة.
 
عسى أن يكون العراق بوابة العبور لشعوب هذه المنطقة إلى عالم النور والحداثة السياسية والمجتمعية، من يدري فالنور يأتي من مجاهل الفضاء..
 
m.althaidy@asharqalawsat.com