الحياة ١٥ سبتمبر ٢٠١٢
ليس عديم الدلالة أن تنفجر ردود الفعل الأولى على الفيلم السفيه والبذيء في بلدان «الربيع العربيّ». هذا لا يمنع انتشارها إلى بلدان أخرى، لكنّه، مع هذا، يبقي لبلدان الثورات قصب السبق التأسيسيّ، ناهيك عن الميل إلى استبعاد وصول أيّ من الردود اللاحقة المحتملة إلى سويّة الهمجيّة التي رأيناها في بنغازي.
ولا يخطئ المرء إذ يلاحظ أنّ ذلك كان تعبيراً عن انفجار في الحرّيّات عرفته تلك البلدان (ومعها العراق) بسبب ثوراتها. بيد أنّها الحرّيّات وقد اتّجهت في الوجهة الخطأ، ليس فقط بسبب تفاهة المناسبة – الفيلم، ولا بسبب وهميّة العدوّ الذي اختير، بل أيضاً لأنّ الردّ البشع الذي شهدناه يريد أن يعاقب الحرّيّة بسبب «الفيلم» السفيه، فكأنّ المطلب الضمنيّ هو التالي: أوقفوا الحرّيّة من أجل أن نضمن عدم السفاهة.
 
وحين نتذكّر أنّ البيئة التي سجّلت اعتراضاتها الحمقاء والقاتلة هي من البيئات الطالبة للحرّيّة، في معمعة «الربيع العربيّ»، ومن البيئات المستفيدة منها أيضاً، بات التناقض من نوع يفقأ العين.
 
أغلب الظنّ أنّ أنظمة الاستبداد، وفي مقدّمها النظام السوريّ، قادرة، في «رسالة» موجّهة إلى الاميركيّين والغربيّين، على استنتاج التالي: هذا ما ينجم عن الثورات التي تدعمونها، فاتّكلوا علينا ونحن من يحمي مصالحكم. وقد يقول من هم أكثر حذلقة فيهم: صحيح أنّنا نُطلق أسباب التوتّر ثمّ نلجمها، إلاّ أنّ الثورات التي تدعمونها تطلق تلك الأسباب وتعجز عن لجمها.
وهذا تأويل أقلّ ما يقال فيه إنّه مغرض، يتعدّى الأنظمة المستبدّة إلى مثقّفين وكتّاب لا يعنيهم من الأمر كلّه سوى توجيه الأذى لأميركا والبرهنة على أنّها إنّما تؤذي نفسها بأفعالها هي. أمّا النتيجة الفعليّة لهذا النقد الفصيح فهي الحفاظ على المستبدّين يتمتّعون باستبدادهم!
 
في هذه الغضون، يُسهى عن أنّ المحتجّين، من دون التقليل من حجمهم، لا يساوون الشعوب كلّها ولا يلخّصونها، كما يفوت النقّاد الرسميّين وشبه الرسميّين أنّ بلدان الثورات العربيّة مندرجة في مرحلة انتقال صعب ومعقّد ومشوّش يزيدها تشويشاً أنّ الإسلاميّين هم الذين اختيروا ديموقراطيّاً لقيادة انتقالها.
مع هذا، لا بدّ من تسريع مرحلة الانتقال وترشيدها، ليس فقط من أجل ضبط ردود فعل كالتي شهدناها، بل أيضاً للانتقال إلى سويّة أرفع في الاستقرار والتقدّم. وبطبيعة الحال سيكون من الظلم مطالبة الثورات بتوفير الدواء الشافي على رغم أنّ الفترة التي انقضت على انتصارها تُحسب بالأشهر. إلاّ أنّ الأمر الملحّ اليوم هو تنظيم الحرّيّة، أكان عبر التوكيد على احتكار السلطات لأدوات العنف، أو عبر إشاعة أفكار دينيّة أشدّ استنارة في المجتمع. وربّما كان السؤال المركّب الذي يداهمنا في بلدان «الربيع العربيّ»: كيف يتمّ التقدّم بالثورات كما لو أنّ لا سلفيّين مسلّحين، وكيف يتمّ التعامل مع السلفيّة المسلّحة والمغرقة في التخلّف كما لو أنّ لا ثورات.
 
وإذا كانت جماعات الإخوان المسلمين هي المُطالَبة، قبل أيّ طرف آخر، بالمبادرة، بقي أنّ هذه المبادرة لا يمكنها أن تضع العالم الخارجيّ بين هلالين. فهذا الموقف من الغرب آن له أن يحتلّ موقعاً متقدّماً في نقاشنا وفي همومنا، لا سيّما أنّه الرحم الذي تولد فيه كلّ الهمجيّات المدمّرة لمجتمعاتنا، وكلّ الاستبداديّات القامعة لشعوبنا.