المدى: 12-04-2012
 
كنا وما زلنا وسنبقى بحاجة إلى التجربة لتصحيح أفكارنا ، والتي تستبد بنا في حالات التوتر خاصة، لما يشوبها من إطلاق وتعميم يغلقها على النقد والمراجعة. لقد كنا – مثلاً – بحاجة إلى الدخول في تجربة مع رجال الدين عموماً. وحملة المشروع السياسي الديني أو الديني السياسي منهم خصوصاً،

سواء منهم أولئك الذين يستندون إلى نظرية الخلافة العظمى من السنّة مع العلم أنه بدءاً من خلافة أبي بكر (رض) وطريقة استخلافه تم الفصل بين الديني والزمني كمترتب منطقي على وفاة الرسول “ص”. أو أولئك الذين يستندون من الشيعة الولائيين إلى ” ولاية الفقيه” المطلقة، خلافاً للأغلبية الساحقة من فقهاء الشيعة، ويزيّنون أطروحتهم الدينية السياسية في بناء الدولة ومؤسساتها وتحديد مصادر شرعيتها الشعبية اللاحقة ، بشرعيتها الدينية أو الإلهية المؤسسة، يزينونها أو يوشونها أو يطرزونها بخطوط ملونة وناعمة، من الحرية والديموقراطية والتعددية، لذرّ الرماد في العيون، أو ريثما يتمكن المتمسكن ، وتتكشف الحقائق والنيات إبان الاستحقاقات الكبرى (الحركة الشعبية أو الطالبية المطلبية، حركات الاعتراض على نقص الحريات، أو المغامرات العسكرية، الانتخابات النيابية أو المحلية أو الرئاسية إلخ).

كنا بحاجة إلى التجربة في السودان والصومال وأفغانستان وإيران، لا لنتشبث بضرورة التمييز بين الديني والسياسي وبين الدين والدولة وبين الدين والفهم البشري له، وبين المقدس والتاريخي ، وبين المطلق والنسبي، وبين الدين والإيمان، وبين الخلاص الفردي وتوهم الخلاص الجمعي أو الجماعتي، إلخ…من أجل الحفاظ على الدين والدولة وحفظ كل منهما للآخر وبالآخر من خلال هذا التمييز ، حيث يؤدي الخلط الذي لا يكون إلا عشوائياً بين الدين والدولة، بسبب اختلافهما المنهجي معرفياً وعملياً، إلى إلغاء الدين بالدولة وإلغاء الدولة بالدين، أي إلغاء الضرورة (الدولة) بالحرية (الدين) على أساس بطلان الإكراه وكون الإيمان لا الإعلان معياراً وحاكماً.

بل وأيضاً لنكف عن المراهنة على مدنية رجل الدين إلا إذا اختار السلوك المدني والتزام به، وإلا فهو غير مدني حتى يثبت العكس، وحتى لا نظلم فإننا نصدق بأن هنالك مدنيين حقيقيين بين رجال الدين ، منهم من كان كذلك أصلا ومنهم من أصبح كذلك لاحقاً متحملاً النفي والإبعاد والحصار والنبذ والتكفير والقتل أحياناً. وهناك مدنيون من رجال الدين ، أي يحبون أن يدخلوا مع الدين إلى المدينة كنظام قيم يحرسها ويحبون أن تذهب المدينة إلى فضاء الدين لتستروح، أي لتكتسب في عمارتها وعمرانها ونظام علائقها روحاً يأتي من الغيب ليبعث في الحضور وفي الشهود نسيماً عذباً وضرورياً لجماليات الكون والحياة والإبداع … والمدنيون هؤلاء، كبار كبار عادة يبلغون غاية في العلم الديني فيكتشفون أهمية المدينة وعمومياتها القانونية التي تضبط الخصوصيات وتحولها إلى مصادر حيوية، أي تحمي التعدد أو الخاص بالوحدة أو العام، وتثري الوحدة وتضمنها بالتعدد… (من يستطيع أن ينفي أو ينتقض من مدنية السيد علي السيستاني المرجع الديني، الذي بلغ من الدين علماً وعملاً وتديناً أنه أصبح من أرفع وأسطع مصاديق المدنية وبناء المدينة؟؟؟) حتى الآن أردت أن ينصبّ كلامي على رجال الدين المسلمين، لأن رجال الدين المسيحيين، فيهم نسبة كبيرة جداً من المدنيين الروحانيين، أما الآخرون فقد أصبحوا مدنيين طوعاً أو كرهاً بموجب الدولة العلمانية، التي حررت المسيحية من الكنيسة وحررت الكنيسة من كهنتها وحولتها من الحجر إلى البشر ، لتعود العلمانية فترتكب موبقاتها من دون ذريعة دينية . وإن كان علمانيون كثر من الحكام (مسلمين ومسيحيين) يعودون إلى الدين ليتذرعوا به في تغطية ارتكاباتهم. وهذا لا يمنع من أن يكون عدد من رجال الدين المسيحيين يمارسون عنفاً غير مباشر بحجة الدينونة أو دوافع محض ذاتية ، ويبدون ميلاً غير عاديّ لإلغاء الآخر تعويضاً عن العنف السلطوي (الدولتي) الممنوع أو المكبوت ، بالعنف الأيديولوجي الديني ومن خلال السلطة الطوعية التي يحصلون عليها من رعاياهم باعتبارهم طرقاً حصرية إلى الله والآخرة !!!

أحاول في ما يلي أن أقدم شهادتي في مسألة انزلاق رجل الدين إلى قاع السلطة أو التسلط من خلال معرفتي المباشرة بآليات التدريس في الحوزات الدينية. في مناهج هذه الحوزات يعتمد التدريس المتعدد المستويات والمراحل لأحكام الفقه الإسلامي، التي تطال كل شي في تصرفات الفرد ، على أساس ما تم التفاهم عليه من أن “لكل واقعة حكماً ومن دون استثناء – من العطاس وتقليم الأظافر والدخول والخروج من دورة المياه إلى عدم جواز السلام أو رد السلام على الكتابي إلى أحكام الزواج والطلاق والمضاربة والمزارعة والتجارة – خاصة تجارة الرقيق”…وهذا الحكم هو حكم الله في حق الفرد (المكلف) وإن كان الذي توصل إليه بشر يخطئ ويصيب سواء كان مجتهداً حقاً أو مدعياً للاجتهاد . ومن دون أن يكون بإمكان أي فقيه أو مدع للفقه أن ينكر لفقهاء آخرين رأياً آخر في المسألة نفسها . بلى يستطيع الفقيه أن يعمم رأيه إلى حدود بعيدة ويغطي على الآخرين ،إذا ما كان مدعوماً بسلطة (علمانية) أو دينية قابضة وغنية تستطيع أن تحول موظفيها وأجهزتها الأمنية إلى دعاة له . 
 
وفي العادة أن تكون المرجعية فقهاء من هذا النوع مرهونة برضا السلطة وتكرمها عليه ، بينما عرف المسلمون مرجعيات لم تفكر بأن تكون مرجعيات ، بل فكرت بالعلم والدين فقط ، وفي لحظة من حاجة الناس إلى المرجعية الأمثل أصبحت مرجعيات باختيار حرّ من المكلفين والمؤمنين ، لا باختيارها ، فرضخت لإرادة هؤلاء الناس الأبرياء من أملاءات الرعاية وإغراءات المكاسب ،الذاهبين إلى المراجع مقدمين لهم بعضاً من جنى العمر حباً ورغبة وثقة بوصوله إلى المستحقين من الفقراء وطلاب العلم الحقيقيين – المرجع الراحل السيد أبو القاسم الخوئي مثالاً وتلميذه الذي قضى ستين سنة من عمره متوارياً في مجالس العلم والتعليم وفي منزل فائق التواضع حتى الآن. ومن بداية المرحلة الأولى للدراسة في الحوزات والمعاهد الدينية ، مرحلة المقدمات في اللغة والمنطق والفقه ، يبدأ الطالب بتلقي أو تعلم الأحكام الفقهية الأولية ، ومن دون أي استدلال علمي بآية أو رواية أو أصل أو قاعدة فقهية (فتاوي خام) مع الاهتمام المميز بأحكام العبادات ، أي الحرام والحلال والواجب والمندوب والمكروه في الطهارة والصلاة والصوم والحج الخ .
 
وهنا يقع الفتى المراهق المتعلم الآتي خالي الذهن وفي الأعم الأغلب من الأرياف أو من طبقات مقموعة أو مهمشة بشكل أو بآخر وبفعل سلطة المال أو سلطة السلطة ، يقع على باب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من أبواب الفقه العبادي ،ومنه يدلف إلى مصاديقه في ممارسات الناس من ترك الصلاة سراً أو علناً إلى حلق اللحية وترك الصوم أو التقاعس عن الحج أو عدم تخليص المال بالخمس أو الزكاة ،إلى تبرج النساء واختلاطهن بالرجال وتسامحن في حسن التبعل لأزواجهن ، إلى أحكام التعامل مع الشرطة وشركة الكهرباء والمياه حيث تلزم القواعد الفقهية بعدم المخالفة لأن من مقاصد الشريعة حفظ النظام العام ، ولكن الشيخ الفتى يذعن لإصرار الأهل على المخالفة وينظر لها بأن مال الدولة ، لأنها جائرة أي غير دينية ، مجهول المالك ، لأن هذه الدولة لاتملكه ، فيجوز التصرف به بناء على رخصة من الحاكم الشرعي (أي المجتهد) في حين أن أخانا مازال في مرحلة دراسة المقدمات ، أي بينه وبين الاجتهاد عقدان من السنين، إذا ما جاء جدّ جده . ويتعلم الطالب أحكام التعامل مع الحاكم الظالم ، وكل حاكم مدني ظالم ، وإن جاز قبول هداياه وأعطياته أو كان حليق اللحية أو يتناول قليلاً أو كثيراً من الخمرة ويصافح النساء ، كما تجوز الوظيفة في مؤسسات الدولة قضاء وإفتاء والتعامل الزبائني مع المحاكم في الحصول على الوظيفة أو الترقيه فيها . إلى أحكام الحدود والتعزيزات الشرعية- العقوبات البدنية – على الجرائم والجنايات المالية والأخلاقية والجسدية والدينية وهنا يشعر الطالب بأنه في مدرسة (كادر) أو كلية حربية أو معهد قضائي، ومنذ شهوره الأولى يبدأ بالتفكير بالعودة إلى قريته ليمارس سلطانه على أمه وأبيه وجدته وخالته وجارته ومختار الضيعة ورفاق طفولته فيها وعلى مختارها ورئيس بلديتها ومعلمها ومعلمتها خاصة باعتبارهم سلطة بديلة غاصبة أو موازية لسلطته الشرعية … وهم جميعا قد قالوا له عندما ودعوه أنه من الضروري أن يمكث عدة سنوات ليعود على مقدار من العلم يفرض به هيبته عليهم وهم يعتزون به ، ويكون أقدر على الاندماج بهم أو العودة إلى الاندماج كما كان عندما كان شريكاً في حقول التبغ والحنطة زراعة وقطافا وحصادا … وعتابا وميجانا وحبا ومطاردة للحساسين .
 
ولكن السلطة بمعنى التسلط أو التغلب تقوم على الانفصال والفصال ، أي انفصال الحاكم عن المحكوم والفصال الدائم معه لأن لان الوئام يقرب المسافة ويقلل من السلطة . وهكذا يقيم شيخنا الذي لتوه قد بان على صدغية ريحان عذاره الأسود ، والذي لم يتعلم بعد لف عمامته إذا ما انفلشت أو فلشها طفل عابث ، يقيم سلطته على مزاجه وإن لأشهر معدودة ، وفي حدود ما يتيسر له مع امتعاض معلن أو مكتوم من أهله وأهل ضيعته . ويظهر عليه الضيق والتبرم والحنق والغضب لأن يد الشرع غير مبسوطة ، أي أن الفقيه لا يستطيع أن ينفذ الأحكام بالمخالفين جلدا أو رجما أو تعزيرا أو مقاطعة للمقترف في دكانه أو منزله أو عائلته الخ . ما يقتضي أن يكون هناك دولة إسلامية يبدأ التفكير بإقامتها ويبدأ بالبحث عن حزب سياسي يحمل أطروحتها لينتمي إليه باعتبارها طريقا مؤديا إلى الآخرة مرورا بمزرعتها في الدنيا . وقد منّ الله علينا بأحزاب تحمل هذه الأطروحة وتملك كل الإمكانات واللياقات التي تجعلها وعدا حقيقيا بدولة إسلامية قادمة وإن كانت مؤجلة في لبنان لظروفه الخاصة التي تملي التسامح في كثير من الأساسيات الفقهية بسبب التحالفات الضرورية والسلوكيات التي تقتضيها ما يؤدي في النهاية إلى الفصام التام بين الغاية والوسيلة. مبررا ومسوغا ذلك بفلسطين ومصلحة المسلمين أو مصلحة الطائفة . وقد أصبحت الأطر الحزبية مكانا طبيعيا لمعاقرة الأحلام وتحقيق الآمال وأصبحت السياسة غالية وتراجع منسوب الموعظة في الخطاب الديني لأولوية السياسة على الدين من أجل الدين طبعا !!! وهذا ليس مسَّاً منّا بالمقاومة والتحرير ، والذي نخشاه أن تصبح المقاومة ذريعة للمس بناء ،بأفكارنا وعلائقنا وخياراتنا وحرياتنا وعباداتنا الخ .
 
عود على بدء … كيف يمكن أن نقنع من ينشأ على هذه الحال أن لا يشتهي السلطة وأن يطرد السلطان الذي ارتدى جبته ؟ ليكون مدنياً ، مواطناً مدنياً ، ليستريح ويريحنا ، ولا يغتر بأدب المجتمع الأهلي واحترامه للرموز الدينية ، فيقفز من ذلك إلى شهواته السلطوية أو التسلطية . هذا أمر يتصل بثقافة مجتمعية واقية من هذا المرض القاتل ، وبالتالي ثقافة تفضي إلى دولة تحترم الدين وتحميه كمكون ، من دون أن يعني ذلك ترخيصا لرجال الدين أن يتدخلوا في السياسة باسم أديانهم وطوائفهم ، بل كأفراد مواطنين ذوي حقوق سياسية كغيرهم . إن تسامحنا أو تراخينا في هذا الشأن ، مضافا إلى قصور وتقصير مؤسساتنا المدنية وأحزابنا السياسية وانكشافاتها التي أكدت أنها ناقصة المدنية ، وجاهزة للالتحاق والانسحاق أمام الأحزاب المذهبية عندما تقوى أو تستقوي أو تغلب أو تتغلب ، إلى قصور الدولة وتقصيرها وطائفيتها وزبائنيتها ، إلى أسباب معرفية وأسباب سياسية ، خارجية وداخلية ،كل ذلك أوقعنا في محذور أخطر وأدهى . فقد انتهينا إلى أن مجتمعنا الأهلي الذي كف عن أن يكون أهليا ، بمعنى المودة والرحمة والتراحم والتواصل ، قد أصبح (سوبر مذهبي) .
 
وارتضى ، المجتمع الأهلي ، المذهبي الآن ، أن يكون رجل الدين ، أي رجل دين ، ولأنه رجل دين ، وبصرف النظر عن علمه وتقواه، هو المقدم والأول في التراتب السياسي ، وأن يكون هو ، أي المجتمع الأهلي ، بكل حساسياته وثقافاته وراء رجل الدين هاتفاً ذاهباً في الانقسام الاجتماعي إلى وديانه السحيقة.