تلون المشهد الثوري في البلدان العربية بسرعة مذهلة وبسوداوية قاتمة كاتمة للأنفاس طاردة للأفراح محبطة للمعنويات في ظل حالة تشاؤمية وترقب لما ستسفر عنه القوادم من الأيام في دول “الربيع العربي”، بعد أن أستبشر المواطن العادي خيراً برؤية هلال ربيع التغيير، وكأن هذا الملقب “ربيعا” يملك عصاً سحرية، يقلب بها مرارة العيش في ظل حكم الأنظمة القمعية الاستبدادية إلى نعيم أبدي البقاء..! 
 
وبالرغم من بروز عوامل أخرى ساعدت في وجودها، إلا أن حالة التشاؤم هذه جاءت على خلفية صِدام أيدلوجي وانطلاقا من خلفيات تكفيرية طفت على السطح، حتى قبل أن تَمتص ما يكفي من ردات فعل مقابلة رافضة لنزعة التغيير وأمل العيش في فسحة من الحرية، وقبل أن ترتوي من عطش سنين عجاف عاشتها تحت سياط أقسى دكتاتوريات عرفها التاريخ البشري القديم والحديث. 
ففي تونس، الدولة التي انطلقت منها شرارة التغيير في العالم العربي، تنفس ثلاثة صحافيين أول نسائم الحرية في أقبية السجون والمعتقلات، بعد أن عاقبت السلطاتُ الثلاث على خلفية نشر صحيفتهم (التونسية)، صوراً عارية لعارضة الأزياء زوجة اللاعب ألماني الجنسية تونسي الأصل(سامي خضيرة)، وهي الواقعة الأولى من نوعها في العهد التونسي الجديد، في حين أن اللاعب نفسه كان متسامحاً، “لا أفهم لماذا لا يمكن للناس أن يعبروا بحرية عن أفكارهم”.
 
والموقف الأكثر غرابة والخالي من رائحة الدبلوماسية واحترام الآخر، كان لوزير الثقافة التونسي (مهدي مبروك) الذي رفض مشاركة من أسماهن بـ”فنانات العري” في مهرجان قرطاج، “مشاركة نانسي عجرم وإليسا في قرطاج على جثتي، وتامر وشيرين ممنوعين”.
 
أما في” أم الدنيا” كما يحلو للمصريين تسميتها ، فقد حوكم الفنان (عادل أمام) بحبس لثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ؛ بسبب ما قيل إنه “ازدراء للدين الإسلامي”. وفي “عروس البحر الأبيض المتوسط” عَدَ أربعةٌ من كبار شيوخ الدعوة السلفية يتقدمهم الشيخ (عبد المنعم الشحات) المتحدث الرسمي باسم الدعوة في ندوة عقدت بمسجد الفتح بالإسكندرية، ضحايا مجزرة بور سعيد” ليسوا شهداء لكنهم قتلى لهو”! مؤكدين في الوقت نفسه على أن كرة القدم “محرمة شرعا”!.
 
إذن فالصدام القائم حالياً والمتوقع تصاعده مستقبلاً، قد يميط اللثام عن أسواً عهد ربما تشهده الجماهير المتعطشة لنسمات الحرية، ما لم يلجم من يقف وراء محاولات صب الزيت فوق النار؛ لإعادة عجلة الزمن إلى الوراء، ولكبح جماح القوى الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني، التي تعمل على ترسيخ مفاهيم التعددية وقبول الآخر والانفتاح الفكري والحضاري تحت مظلة دولة مدنية للقانون فيها السيادة وللأكثرية واجب احترام حقوق الأقليات. 
 
الإشكالية والتصادم الفكري القائم في دول التحول الديمقراطي، تكمن في أن السلطة التشريعية في تلك الدول، سلطة مقيدة بقيود أغلبية برلمانية لا تتنازل عن كون رجالاتها من الدعاة والوعاظ لهذه الأمة الضالة! ولا يمكن هداية الأمة إلا بإزالة كل ما يخالف أفكار الدعاة أو النواب الجدد؛ لكي يعيدوا الأمة من كفرها وإلحادها!. 
والإشكالية تتمثل أيضاً في إنعدام الثقافة الديمقراطية، واختفاء نسبي للتثقيف من على وجه خريطة العمل الإعلامي لوسائل الإعلام الوطنية الواعية والمدركة لأهمية الانتقال والتحول الديمقراطي..وعليه نحن بحاجة إلى عقود من الزمان؛ لكي يتمتع السواد الأعظم من الشعوب العربية بثقافة ديمقراطية تقيها الضربات الموجعة لدعاة التكفير، بل وتكون الركيزة الأساس واللبنة الأولى لبناء لا يمكن أن ينهار بسهولة، ينطلق من صندوق الإنتخاب وينتهي بالتبادل السلمي للسلطة في ظل احترام الحقوق العامة والخاصة، فضلاً عن شعور المواطن بالمسؤولية تجاه بلده وكيفية المحافظة على كل شبر من ترابه.