الحياة اللندنية- الخميس, 09 فبراير 2012
 لم يكن كثيرون يتوقعون أن تتدهور الأوضاع السياسية في العراق بالسرعة التي رأيناها خلال الأسابيع القليلة الماضية، إذ معظم المتابعين يتصورون أن الساسة العراقيين قد تعلموا من تجربة السنوات التسع الماضية، وأنهم سينتظرون قليلاً بعد انسحاب القوات الأميركية قبل أن يفجِّروا خلافاتهم السياسية والدينية والمذهبية المستعصية. إلا أنهم في الحقيقة صدَموا الجميع وبرهنوا للقاصي والداني على أنهم غير مستعدين للتضحية حتى بالقليل من أجل التعايش وبذل الجهد لإيجاد الحلول حتى بحدودها الدنيا. ففي الأسبوع الذي غادرتْ به القوات الأميركية، صدرت مذكرة اعتقال بحق نائب الرئيس، طارق الهاشمي، بتهمة تنفيذ عمليات إرهابية في بغداد، وبثت وسائل الإعلام الرسمية مقاطع من تحقيقات الشرطة مع بعض أفراد حرسه وهم «يعترفون» بأنهم نفذوا أعمالاً إرهابية بأمر مباشر منه.
 

وفي ذاك الأسبوع نفسه، أرسل رئيس الوزراء نوري المالكي طلباً إلى البرلمان بسحب الثقة عن نائبه الأول صالح المطلك الذي كان قد صرح أثناء زيارة المالكي إلى واشنطن بأن الأخير هو «دكتاتور أسوأ من الذي سبقه»! وقد ردت القائمة العراقية التي ينتمي إليها الهاشمي والمطلك بتعليق عضوية نوابها في البرلمان ومقاطعة وزرائها جلسات مجلس الوزراء ما أدخل البلاد في أزمة سياسية هي الأخطر حتى الآن خلال تسع سنوات.

وفي هذه الأثناء تدهور الأمن في شكل خطير في جميع أنحاء البلاد واندلعت التفجيرات وتوالت السيارات المفخخة في بغداد والحلة والناصرية والبصرة وكركوك والموصل ومناطق أخرى، وراح ضحية أعمال العنف مئات المدنيين الأبرياء خلال شهر دامٍ لم يشهد العراق له مثيلاً خلال أربعة أعوام من الأمن الهش.

لا شك في أن الأحداث السياسية انسحبت على الأوضاع الأمنية، إذ ليس من قبيل الصدفة أن تتزامن الأزمة السياسية مع التدهور الأمني، فقد حصل هذا في السابق وكلما اندلعت أزمة سياسية امتدت آثارها بسرعة إلى الشارع. المجموعات الإرهابية عادة ما تستغل الخلافات بين الأحزاب السياسية لتضرب الاستقرار الأمني في العمق من أجل أن تزيد الوضع تأزيماً.

ليس سهلاً أن تسيطر قوى الجيش والشرطة على الأمن في وقت توجد فيه منظمات إرهابية، أجنبية ومحلية، متمرسة في القتل وتستخدم انتحاريين مغسولي الأدمغة لقتل الأبرياء وضرب مصالح الناس، ولا تستثني هدفاً، فكل شيء في كل مكان مستهدف. لا يمكن مراقبة كل شارع وزقاق وسوق ومسجد ومبنى وسيارة وشاحنة، فهذا أمر مستحيل في أي بلد. ولكن في الوقت نفسه فإن الإجراءات الأمنية الحالية تعوزها الدقة والإتقان والمعلومة الأمنية الدقيقة والكفاءة المهنية، بل وربما تسببت في أحيان كثيرة في زيادة عدد ضحايا الإرهاب عبر تسببها في زيادة الازدحام في الأماكن المستهدفة. نقاط التفتيش العسكرية كثيرة ومنتشرة في أنحاء العراق وكثير منها فائض عن الحاجة وقد تكون كثرتها وعدم انسجامها مع بعضها وعدم تنسيق جهودها أسباباً رئيسية في تدهور الأمن. كثرة نقاط التفتيش أصبحت تعيق الحياة الطبيعية في العراق، خصوصاً مع عدم قدرتهم على حفظ الأمن، لذلك أصبح لزاماً على الحكومة أن تفكر بالاستعاضة عن بعضها بنقاط تفتيش وقتية مفاجئة كي تربك حسابات المجاميع الإرهابية والتخريبية.

ليس مستغرباً أن تندلع الأزمات السياسية في بلدان العالم، وهذا يحصل من دون تخطيط من أحد وقد يعجز السياسيون المعنيون عن السيطرة عليها أو توجيه مسارها، وقد تتطور في أحيان أخرى لتقود إلى استقالات غير متوقعة في أعلى المناصب. ولكن هل كان صعباً على الحكومة العراقية، ورئيس الوزراء تحديداً، التعامل مع الأزمة الحالية بطريقة مختلفة بحيث توضع الأمور في نصابها كي لا تتطور إلى أزمة كبرى تؤثر في الأمن والاقتصاد والاستقرار والتماسك الاجتماعي؟ إن كانت قضية نائب الرئيس قضائية بحتة، وهي بالتأكيد كذلك، ألم يكن بالإمكان تجريدها من الجانب السياسي والإيعاز للأجهزة الأمنية ألا تجعل مواد التحقيقات الأولية مع المتهمين متاحة لوسائل الإعلام؟ وهل يجوز قانوناً أن تبُث وسائل الإعلام «اعترافات» لأشخاص متهمين حتى قبل أن تبدأ محاكماتُهم، كما حصل مع أفراد حماية الهاشمي؟

المعروف أنه في كل الأنظمة القضائية في العالم أن وسائل الإعلام تمتنع عن مناقشة القضايا التي يجري التحقيق فيها وإن ناقشتها فهي لا تذكر أسماء أو صور أي من الأشخاص المعنيين بها كي لا يؤثر ذلك في مجرى العدالة. لقد سألتُ وزير العدل في حكومة المالكي الأولى، هاشم الشبلي، إن كان القانون العراقي يسمح بذلك فنفى وقال إن هذا مبدأ قضائي عالمي. إن كان الأمر كذلك فلماذا سمحت الحكومة ببث تلك الاعترافات إذاً؟ وهل يعتبر هذا السماح مخالفة قانونية تستحق الملاحقة من القضاء الذي أكد رئيسه مؤخراً لوسائل الإعلام أنه مستقل عن السلطة التنفيذية نافياً أن يكون قد أقر أو سمح ببث اعترافات لمتهمين قائلاً إن السلطة التنفيذية هي التي بادرت إلى ذلك.

المؤتمر الوطني الذي تعتزم القوى السياسية عقده لن يأتي بجديد ولن يحمل عصا سحرية لحل الخلافات السياسية إن كانت خصومات القادة قد وصلت إلى الحدود القصوى التي رأيناها. نعم قد يتفقون على وثيقة جديدة، وقد يخفف هذا من حدة الأزمة موقتاً، لكن المطلوب أعمق من مؤتمر يتصالح فيه المتخاصمون ليعودوا إلى خصوماتهم حالما اختلفوا على أمر ما. هناك حاجة لأن يحترم القادة جميعاً، سياسيين ومهنيين، مواد الدستور ويلتزموا بالقوانين بكل تفاصيلها كي يؤسسوا لدولة القانون التي ينادون بها. يجب تصحيح التجاوزات على القانون في كل الاتجاهات ومحاسبة من ارتكب مخالفات قانونية من كل الأطراف خصوصاً أن كان من السياسيين الذين ما فتئوا يطالبون الناس بالالتزام بالقانون والدستور. الكل يتحدث عن الحاجة لتعديل الدستور كونه «حمّال أوجه» ومعيقاً للإصلاحات، ولكن لم تُتخذ أي خطوة ولو صغيرة بهذا الاتجاه حتى الآن. لقد آن الأوان أن تتسق الأقوال مع الأفعال والمكتوب مع المفعول ويلتزم الجميع بالدستور والقانون والمواثيق لأن أضرار التناقض والتناحر قد أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار.

حميد الكفائي

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/360041