الزمان 2002/12/11
رغم شغفي بنشاطات الأحزاب البريطانية ومتابعتي لمؤتمراتها والانتخابات العامة والفرعية والبلدية عبر وسائل الإعلام، فإنني لم أشارك بأي من هذه النشاطات شخصيا باستثناء بعض اللقاءات المتفرقة هنا وهناك. وكنت دائما معجبا بالصدق والحيوية والأريحية التي يتسم بها المشاركون في هذه النشاطات السياسية، وكم تمنيت أن أشارك بها شخصيا، إلا أنني شعرت دائما أن المشاركة السياسية يجب أن تكون لأبناء البلد ممن ولدوا أو تربوا فيه وليست لمن جاءوا من وراء البحار، مهما كانوا شغوفين بالنشاطات السياسية أو متحمسين للانتماء إلى بريطانيا. إلا أن فرصة المشاركة سنحت لي في المؤتمر الأخير لحزب العمال (أيلول/سبتمبر 2002)، إذ دُعيت إلى الحديث عن المشكلة العراقية في إحدى الجلسات المرافِقة للمؤتمر. ولم تقتصر مشاركتي على تلك الجلسة فقط، بل امتدت إلى نشاطات أخرى، فقد شاركت في جلسات مرافقة أخرى، وحضرت جلسات المؤتمر من اليوم الأول حتى يومه الأخير واستمعت إلى كلمات رئيس الوزراء توني بلير وباقي الوزراء والمسؤولين والأعضاء العاديين في الحزب.

وقد رأيت عن قرب كيف يتعامل أعضاء الحزب كبارا وصغارا مع بعضهم البعض، وكيف تُناقش القضايا المهمة وغير المهمة باستفاضة وتفصيل بالغين قبل أن يُتوصل إلى قرار بشأنها يُتخذ عادة عن طريق التصويت، وكيف يختلف المشاركون في الرأي أثناء الجلسات، ليلتقوا بعدها في النشاطات الاجتماعية يتحدثون ويتسامرون بل ويتناقشون في أمور اختلفوا عليها أثناء المؤتمر. ورأيت كيف يتعامل الجميع بمسؤولياتهم المتفاوتة مع بعضهم البعض ليس من منطلق راع ورعية أو رئيس ومرؤوس، بل على أساس التكافؤ بينهم جميعا كأعضاء متساوين في المسؤولية والولاء للحزب والحرص على أدائه ومستقبله. وقد دهشت عندما التقيت بأحد الوزراء الذي خاطبني باسمي قائلا: “قرأت مقالا لك قبل أيام في جريدة الإنديبندنت يا سيد فلان وكان ممتازا في رأيي. يؤسفني أنني لم أعد في أعمل في الوزارة التي تهتم بما ناقشته في مقالك، لذلك فإنني لن أنفعك في شيء”. فقلت له مازحا “من يدري فقد تتولى منصبا يمكِّنك من ذلك في المستقبل، بل قد تصبح رئيسا للوزراء!” فضحكنا وتحدثنا قليلا، وقبل أن ننصرف تبادلنا العناوين وأرقام الهواتف.

وفي مناسبة أخرى التقيت بوزير آخر كان يتحدث بلهجة إسكتلندية صارخة جميلة ذكرتّني بأيام الدراسة في اسكتلندا قبل عقدين من الزمن. وبدا الوزير وكأنه من جيلي، وبدأنا نتحدث عن اسكتلندا وسألته عن منطقته والجامعة التي درس فيها واتضح أنها نفس الجامعة التي درست فيها، لكنه سبقني إليها بعشر سنوات، وهي نفس الجامعة التي درَّس فيها الدكتور غوردون براون، وزير المالية الحالي* الذي لم يستخدم لقب دكتور منذ مغادرته العمل الأكاديمي عام 1983، وهو العام الذي أصبح فيه نائبا في البرلمان. وعندما سألت أحد المقربين منه، عن سبب عدم استخدامه لدرجته العلمية، قال لي إنه لا يريد أن يفصل بينه وبين الناس أيُ حاجز، ولقب الدكتور قد يبعده عن جماهيره لأن استخدامه قد يوحي بالغرور، أو كما وصفه بالإنجليزية pompous .

وفي لقاءات أخرى حاورت وزراء كثيرين وقادة تاريخيين في حزب العمال، والتقيت بزعيمي حزب العمال السابقيْن، نيل كينوك ومايكل فوت، الذي تجاوز الحادية والتسعين من العمر، لكن حماسه لحزب العمال ومبادئه في المساواة والديمقراطية الاجتماعية، لم ينقص أبدا عما كان عليه أيام شبابه، بل ما زال يلهب المشاعر ويثير الإعجاب بين الشباب الذين أحاطوا به، وشعرت أن الرجل يتمتع بشعبية ما كان يحلم بها أيام زعامته للحزب في الفترة 1979-1983. وكما كان في العشرين من عمره، فقد كان فوت مصمما على المشاركة في نشاطات الحزب، خصوصا حضور مؤتمراته السنوية، وكأن ذلك واجب مقدس.
وفي إحدى الأماسي دُعيت إلى حفلة أقامتها صحيفة الغارديان البريطانية، وازداد فيها عجبي وإعجابي بالمؤسستين السياسية والإعلامية البريطانيتين. فالصحفيون والكتّاب هم المهمون هناك، والوزراء وباقي المسؤولين يسعون للتعرف إليهم والحديث معهم. وبينما كنت أتحدث إلى أحد الصحفيين البريطانيين من معارفي، لمحت أحد الوزراء يقف ورائي منتظرا دوره في الحديث إلى ذلك الصحفي، مما جعلني أتعجل لإنهاء الحديث معه.

وفي الحفلة تلك وغيرها كان كبار المسؤولين يتصرفون كباقي الناس يأكلون ويشربون ويرقصون معهم دون قيود أو تحفظات على الإطلاق. ولم يكن الأعضاء العاديون ينظرون إلى كبار المسؤولين أكثر من كونهم أناسا آخرين يعرفونهم، فلا حدود ولا حواجز تفصل بينهم. الشخص الوحيد الذي اهتم به المؤتمرون على غير العادة كان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتِن، الذي حل ضيفا على المؤتمر. إذ اعتاد الحزب أن يستضيف شخصية عالمية في اليوم ما قبل الأخير لأعماله ليلقي كلمة في المؤتمر. وقد حظي كلنتِن بحفاوة رسمية وشعبية بالغة. ولم تكن الحفاوة الرسمية مستغربةً لرئيس أمريكي مرموق بوزن الرئيس كلنتِن، لكن الذي أثار دهشتي هو التزاحم الشعبي للسلام عليه، خصوصا بين النساء. وعندما انتهى كلنتِن من كلمته، ومر في الممشى الوسطي يحيّي القريبين منه، كنت واقفا على مقربة منه، وكان سيصلني الدور في السلام على الرئيس السابق لولا هجوم المرحبين عليه من خلفي ليزيحوني أمتارا إلى الوراء، فانسحبت “زاهدا” بالسلام على الرئيس المحبوب!

لقد كانت تعاملات الناس هناك غاية في الإنسانية والعفوية وغاية في الإخلاص والتفاني والتواضع والشعور بالمسؤولية. لم يشعر الوزير أنه أفضل من الآخرين ولم يعاملهم بالفوقية التي اعتاد أكثر المسؤولين في العالم العربي أن يعاملوا شعوبهم بها، هذا إذا افترضنا أنهم فعلا يختلطون بأشخاص عاديين. والأهم من ذلك، لم يشعر الآخرون أنهم بحاجة إلى معاملة المسؤولين الكبار معاملة خاصة أبدا، وفي كثير من الأحيان تحصل مناقشات حادة بين الأعضاء والوزراء يكون فيها الوزراء الجانب الأضعف في النقاش لأنهم مقيدون بقيود سياسية وقانونية كثيرة، بينما يعبِّر الأعضاء عما يجول في خواطرهم من تساؤلات أو حتى اتهامات حادة دون قيود.

وقد رأيت الكثيرين من أعضاء الحزب يتحدثون ويمزحون مع بعضهم البعض دون أن يكترثوا بوجود الوزراء بينهم بل واصلوا الحديث مع أصدقائهم المقربين بعفوية تامة. ولم يكن غريبا أن ترى وزيرا واقفا وحده لا يجد من يتحدث معه. أهم الأسباب لهذه الظاهرة هي أن الوزير لا يستطيع أن يتجاوز على القانون ليفضل مواطنا على آخر، وما زال حكم القانون هو السائد فما الحاجة لأن يتقرب المرء من أصحاب القرار الذين لن ينفعوه أو يضروه بشيء.

ورغم رُقيْ هذه المشاهد وجمالها، فإن الاستمتاع بها كان مشوبا بكثير من المنغِّصات. فلم أتوقف لحظة واحدة عن المقارنة بين ما أراه في المؤتمر وما يحدث في عالمنا العربي. وكم  تساءلت مع نفسي عن الفرق بيننا وبينهم؟ لماذا لا يستطيع حكامنا أن يتصرفوا بإنسانية مع شعوبهم، ولماذا لا يستمتعون بالعيش مع الناس والاختلاط بهم؟ لماذا لا نستطيع أن نبحث قضايانا المهمة مع صنّاع القرار؟ لماذا يلجأ أحدُنا إلى عزل نفسه عن الآخرين بمجرد أنه تسلم مسؤولية مِهْما كانت بسيطة؟ بل لماذا يتعالى الكثيرون في مجتمعاتنا لمجرد أنهم حصلوا على مال أو جاه أو سمعة؟ والأهم من ذلك كله، لماذا يشعر الكثيرون منا بالحاجة إلى تبجيل المسؤولين والوزراء وإشعارهم بأهمية عظمى تجعلهم يشعرون بأنهم ليسوا أناسا عاديين؟ الكثيرون منا يلومون المسؤولين على تصرفاتهم وانعزالهم عن المجتمع، لكننا لا نسأل أنفسنا لماذا نحن نُشعِرهم بأننا أقل منهم ولماذا يشعر صحفيونا بالصغر أمام المسؤولين فلا يستطيعون أن يطرحوا سؤالا عليهم دون تقديم كل صنوف الطاعة والتذلل ومخاطبتهم بأعظم الألقاب؟ ولماذا تكون أسئلتهم المرتعِشة مجردةً من أي واقعية، ولا تعدو في أكثر الأحيان عن كونها ترتيبات مسبقة تمهد لخطابات معتادة هزيلة يلقيها عليهم المسؤولون بعد الانتهاء من السؤال؟ ألم نسبق العالم إلى الحضارة والعلوم والأخلاق، فلماذا تراجعنا وتقدموا؟ وماذا نفعل كي ننتشل أنفسنا مما نحن فيه؟ أسئلة كثيرة اختلجت في نفسي وما تزال.

وكم تمنيت أن يحدث الشي نفسه في عالمنا العربي المحروم من كل شيء، حتى من “متعة” الاختلاط بحكامه. لكنني فوجئت أنني لم أكن الوحيد الذي تمنى ذلك لبلاده. فقد سمعت الرئيس كلنتون يقول إنه يأسف لعدم وجود مثل هذه المؤتمرات في الولايات المتحدة ويتمنى لو حذى الأمريكيون حذو البريطانيين في إقامة هذه المؤتمرات السنوية.
 
*أصبح رئيسا للوزراء لاحقا