الزمان 2/10/2002
عندما يوصف المرء بأنه مثقف تتبادر إلى الذهن العديد من المواصفات لشخصيته، تكاد تكون كلها إيجابية بالمقياس العام. وأولى هذه المواصفات هي أن المثقف متخصص في موضوع فكري ما ومبدع في هذا الاختصاص، وهو أيضا مطلع على طيف واسع من حقول المعرفة، وأهم شيء أنه يعرف مسئولياته تجاه الآخرين. وما يتوقعه الآخرون في المثقف أنه ذو مستوى أخلاقي رفيع، لا يُخشى من إقدامه على أعمال غير أخلاقية أو مضرة بالآخرين. المثقف يشكل الرأي العام ويتوقعه الآخرون أن يوجههم بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي كل الأحوال فهو قدوة لهم في العديد من التصرفات والأخلاق والتعاملات.


ولكون المثقف عالما ببواطن الأمور، وانطلاقا من علمه الراسخ هذا، فهو مبدئي في تعاملاته، لا يقوم بأفعال سيئة أو مشينة في نظر الآخرين، اللهم إلا  تلك التي يؤمن بصوابها على خلاف الآخرين. ولطالما ضحّى الكثيرون من المثقفين والعلماء في التاريخ بحياتهم بسبب إيمانهم بمواقفهم ومبادئهم وكان سقراط في مقدمتهم. وهذا هو حال المثقف والعالِم اليوم في العالم المتقدم على الأقل، فهو لا يلين في ثباته على المبادئ والأفكار التي ينادي بها ولا يهمه إذا فُصِل من وظيفته أو فقد مكسبا معينا في سبيل مواقفه المبدئية لأن هناك مؤسسات ثقافية ستقف معه وتحميه من مخاطر ما تأتي به أفكاره عليه. وإذا ما قارنا هذا بمواقف العديد من المثقفين العرب نرى أن قليلا منهم من يلتزم بهذه الخطوط العامة للمثقف العالمي. بل يمكن القول بمرارة إن بعض مثقفينا هم كباعة المتنوعات يبيعون ما يملكون، وهو الثقافة، حسب سعر السوق، بل إن هناك من يزايد ويقدم “التخفيضات” لكي يروج لبضاعته. وليس من المستغرب أن تجد هذه الأيام مثقفا “مرموقا” يروج لأفكار بالية لا يؤمن هو نفسه بها، بل قد يكون حاربها كثيرا في الماضي، إلا أنه وجد الآن من يدفع له لترويجها. وما أكثر الكتاب “الديمقراطيين سابقا” الذين ينشغلون حاليا بإقناع الآخرين بـ”مساوئ” الديمقراطية و”مخاطرها” على العالم العربي وعلى الإسلام!!، وما أكثر الكتاب “التقدميين سابقا” المنشغلين حاليا بالترويج لحكم العائلة وتعريف الآخرين بـصفات ابن الرئيس الاستثنائية التي تؤهله بجدارة واستحقاق لخلافة أبيه. وما أكثر المثقفين اليساريين الذي كانوا معاديين للأفكار القومية، لكنهم تحولوا بقدرة قادر إلى قوميين ناصريين أيام الراحل جمال عبد الناصر، وبعد انقضاء العهد الناصري وجدوا  في صدام حسين خليفة لعبد الناصر، فانضووا تحت لواء هذا “البطل القومي” وساعدوه على تبؤ مكانته “المناسبة” في العالم العربي، وساندوه إبان حربه لحماية ” البوابة الشرقية” للأمة العربية من الجيش الإيراني المنحل والفرس “المجوس” المنشغلين بثورتهم الإسلامية. ثم ساندوه عند احتلاله للكويت، إذ رأوا في ذلك “تحقيقا للوحدة العربية” التي ينشدونها. لكن هؤلاء المثقفين تحولوا مرة أخرى بعد أن ضعف صدام وشحت أمواله، وغيَّروا أفكارهم بما يتلاءم مع الوضع الجديد، وأصبحوا الآن “يؤمنون بقوة”، كعادتهم دائما، بعدم صلاح الأفكار الاشتراكية أو الناصرية أو الصدّامية للأمة العربية، وهذا لعمري تحسن كبير في المواقف، ولستُ منكرا عليهم هذا التطور في الأفكار، فنحن جميعا نغير أفكارنا إذا اتضح لنا خطأُها، ولكنني أخشى أن تكون هذه مرحلة جديدة في حياة هؤلاء المثقفين، تُطوى سرعان ما تسنح لهم ظروف أخرى.


هناك مثقفون آخرون يلهثون وراء الأضواء والشهرة ويلهجون بكلمة ثقافة وكأنها ملك خاص لهم، إلا أنهم لا يترددون مطلقا في ممارسة النفاق والكذب والافتراء على الآخرين ومدح النفس واستجداء المال والشهرة في أية فرصة تتاح لهم. بل إن بعضهم يدعي ما ليس فيه ويسرد بطولات لا وجود لها إلا في أذهانهم ويتوهمون أن الآخرين يصدقون بهذه الادعات. المشكلة في هؤلاء “المثقفين” هي أنهم لا يستحون من عمل أي شيء، وبسبب غرورهم ونرجسيتهم المفرطين فهم يتوقعون أن مستمعيهم أغبياء لا يفقهون بأي شيء لذلك فهم لا يتورعون عن الاستغراق في الكذب والغش والنفاق والمزايدات. ينسى هؤلاء وغيرهم أن الثقافة علم وعهد ومسئولية ومبادئ وأن من لا تنطبق عليه هذه الشروط هو غير مثقف وعليه إلا يدعي ذلك لأن الجمهور العربي لم يعد مغفلا كما كان يوما وإن المعرفة والثقافة لم تعد حكرا على قلة من الناس. لا يمكن للمثقف أن يكذب أو يخادع ويغش لأن ذلك كقيام الأمين بالسرقة وهروب الشجاع من المعركة. المثقف مؤمن بما يعتقد، أمين لمبادئه وثقافته لا يعرضها للمزايدات في أسواق النخاسة،  وهو مكتمل الشخصية لا يحتاج لإطراء الآخرين، فما بالك أن ينشغل في مدح نفسه واللهاث وراء الأضواء والشهرة الرخيصة. وفوق كل ذلك فإن المثقف منفتح أمام النقد البنّاء ولا يتردد في الاعتراف بالخطأ إن ثبت خطأُه. أما أولئك “المثقفون” الذين يمارسون هذه الرذائل فهم ليسوا مثقفين بل مهرجين متسولين لا يثيرون فينا إلا الاشمئزاز والقرف كلما رأيناهم على شاشات التلفزيون، أو قرأنا لهم مقالا هو في أكثر الأحيان “تقيؤ فكري”. هناك بالطبع أسباب لهذه الظاهرة المستشرية في أمتنا العربية، أولها عدم وجود مؤسسات تدعم المثقف وتجعله في مأمن عن الحاجة للآخرين وتحميه من التعرض للمضايقات والسجن وحتى الإعدام في بعض الدول، لكن المجال لا يتسع لمناقشتها كلها في هذه العجالة، وهذه دعوة لأصحاب الرأي إلى الإدلاء بآرائهم في هذا المجال علّهم يتمكنون من تنوير الرأي العام بمواصفات المثقف كي يتضح الغث من الثمين.