الحياة, 17 نوفمبر 2011

قد يبدو العنوان أعلاه متشائماً، لكنه للأسف يعكس حال العراقيين اليوم وهم يستعدون لتوديع القوات الأميركية بعد تسع سنوات على مجيئها إلى بلدهم، بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل أو نشراً للديموقراطية، أو كليهما، فسبب المجيء لم يعد مهماً.

أحزاب السلطة في العراق تبدو مصابة بالهلع من عواقب الانسحاب الأميركي وقد بدأت بحملة اعتقالات واسعة شملت مئات الأشخاص من «البعثيين» السابقين الذين «يخططون لقلب النظام». ويعتقد مخططو هذه الاعتقالات أنها ستعزز من قبضتهم على السلطة وتديم بقاءها في أيديهم. بينما يهيئ المعارضون للنظام أو المعترضون على سياساته، كلها أو بعضها، أو المتضررون منه، أو حتى الذين يريدون إصلاحه بالطرق السلمية، أو الذين امتنعوا عن المشاركة فيه، أنفسهم لمستقبل مجهول. فمعظم الأحزاب العراقية العاملة في الساحة اليوم لديها ميليشيات مسلحة أو نوع من أنواع الحماية العسكرية أو الدفاع المعزز بالسلاح، بدرجات متفاوتة طبعاً. ولا أحد يعلم بالضبط حجم أو قوة أي من هذه التشكيلات سوى قادتها ومموليها، والسبب هو أنها سرية. أما في العلن، فالكل يتحدث عن الدستور والقانون وضرورة الالتزام بهما، وعن «العملية السياسية» وضرورة دعمها، لكن الواقع يختلف تماماً. المواطنون العاديون هم الآخرون قلقون جداً من المستقبل، فما قامت به الأجهزة الحكومية قبل أسابيع من اعتقالات ومداهمات قد عزز من حالة القلق لديهم وقدم صورة مصغرة لما يمكن أن يحدث بعد غياب الضامن الأميركي.

أجواء القلق السائدة اليوم ليست جديدة على العراق الذي ابتلي باستمرار بحكام تستهويهم السلطة وحب البقاء في «سدة» الحكم، مهما كانت هذه السدة خاوية أو واقفة على حافة الهاوية. لا يزال العراقيون يتذكرون أجواء تموز (يوليو) عام 1979 عندما استولى صدام حسين كلياً على السلطة وبدأ عهده باعتقال ثم إعدام نصف قادة حزبه، المتهم اليوم بمحاولة قلب النظام، وإعدام كل من ظن أنه منافس له من البعثيين، ثم لاحق وقتل بعد ذلك كل معارض أو منتقد للنظام من إسلاميين وقوميين وشيوعيين ومواطنين عاديين، وملأ البلد رعباً وقتلاً وسجوناً، متوهماً أنه بذلك سيجلب لنظامه الأمن والاستقرار ويضمن لنفسه الطمأنينة والبقاء، ولكن هيهات. فقد عزم العراقيون على التصدي له بطرق شتى كانت أولاها مغادرة البلاد، ولا يهم في أي اتجاه، فالأهم هو الابتعاد عن الخطر الداهم. أعترف بأنني زرت عام 1980 حتى سفارة أفغانستان في بغداد، بين سفارات عدة، باحثاً عن فيزا «للدراسة» فوجدتها مغلقة، فالحرب هناك كانت مستعرة بين الروس وحلفائهم الشيوعيين من جهة، والأميركيين وحلفائهم الإسلاميين من جهة أخرى، لكنني بين آلاف العراقيين، كنت معنياً بالخروج من العراق والابتعاد عن الخطر بأي وسيلة وإلى أي وجهة. لم يكن الحصول على جواز سفر أمراً سهلاً في عراق صدام، فهذه كانت معركة أخرى فضّل أكثر العراقيين عدم خوضها وعبورَ الحدود من دون إذن أو وثائق متوجهين إلى بلدان الجوار هرباً من الجحيم. ولم تكُن بلدان الجوار تلك الجنة الموعودة بل جحيماً من نوع آخر، لكنه ليس قاتلاً. ومن تلك البلدان عارض العراقيون النظام وحملوا السلاح ضده، ليس رغبة في خوض حرب داخلية لم يكن لهم فيها خبرة أو معرفة، بل دفاعاً عن النفس وانتصاراً للكرامة ورفعاً للظلم. آخرون قرروا الصمود في الداخل ومواجهة النظام بطرق شتى، من خداعه عبر التظاهر بموالاته إلى تجنب الاصطدام به، فالهدف الأسمى كان «البقاء فوق التراب» وفق التعبير البليغ للشاعر سعدي يوسف. ولم يكن هناك فرق بين العراقيين، فالكل خائفون، بدليل أنهم جميعاً هاجروا وعارضوا وتعرضوا للاضطهاد والقتل. هناك مقولة خالدة لرجل الدين العراقي الراحل مهدي الحكيم، وهي أن «صدام كان عادلاً في توزيع ظلمه على العراقيين»! وهذه المقولة صحيحة على رغم أنها ليست دقيقة، باعتبار أن لا عدالة في الظلم أساساً، لكن المقصود أنه لم يميز بين معارضيه على أساس طائفي أو عرقي أو مناطقي فقد ظلمهم جميعاً، وكان السيد مهدي من أوائل الذين طاولهم ذلك الظلم، إذ لوحق منذ 1969 ثم اغتيل في فندقه في الخرطوم مطلع 1988 أثناء زيارة قام بها إلى هناك بدعوة من رئيس البرلمان السوداني آنذاك، حسن الترابي.

لم يسلم من عنف صدام أهالي مدينته، تكريت، الذين فتك بهم بشدة، ولا حتى أبناء عمومته من آل المجيد الذين قتل منهم من قتل وأجبرهم على قتل أخيهم، علاء المجيد، بأيديهم، ولا أهل الأنبار الذين خططوا مرات عدة لقلب نظام الحكم، ولا أهل الموصل بتنوعاتهم القومية والدينية ولا أهل الجنوب أو الشمال. الجميع كان مضطهداً ومتهماً وملاحقاً.

مرة أخرى، يجد العراق نفسه على مفترق طرق، وقد تكون الخطورة قاتلة هذه المرة خصوصاً مع عدم وجود تماسك وطني وأجهزة أمنية قادرة على التمييز بين الخطر الحقيقي والوهمي. لتطمئن الحكومة والسيد المالكي، فليس هناك من هو قادر على تغيير النظام بالقوة، على الأقل ممن يعتبرهم المالكي خصوماً له، هذا إذا افترضنا أن هناك من يمتلك القدر الكافي من الحماقة كي يسعى جدياً إلى الانقلاب. أكثر العراقيين يريدون إصلاح النظام الحالي بحيث يكون ديموقراطياً في شكل حقيقي وقادراً على أن يخدم العراقيين جميعاً وليس جزءاً منهم وإن كانوا يشكلون غالبية. الديموقراطية تعني الحرية والكرامة والعدالة للجميع، وتعني تحديداً حماية الأقليات والأفراد من استبداد الأكثرية والجماعات. العراق اليوم يمر بلحظات تاريخية قد تقوده إلى الاستقرار والتقدم والرفاهية، وهذا ممكن إن ابتعد المسؤولون عن الاستبداد وقبلوا بالآخر وحاربوا الفساد والتمييز، أو إلى الهاوية والتمزق والاحتراب إن استمر الوضع على ما هو عليه الآن، وهذا ما يخشاه كثيرون.

معظم القوى المتنفذة في العراق اليوم تحمل السلاح، ومن الوهم القاتل حقاً أن تعتقد إحداها أنها الوحيدة القادرة على إلحاق الهزيمة بالآخرين والانفراد بالسلطة والثروة لنفسها من دون الآخرين. لذلك فإن من الضروري أن يتحلى الجميع بالحكمة وقبول الآخر والاشتراك معه في السلطة، فالشراكة تضمن للجميع الاستمرار والاستفادة وللبلد ككل الرخاء والاستقرار، بينما لن يستفيد أحد من الانفراد بالسلطة حتى وإن تمكن من ذلك. معظم العراقيين مستعدون للدفاع عن النظام الحالي إن أصبح أكثر عدلاً وديموقراطية وتمثيلاً وأقل فساداً، لكنه سيخلق لنفسه مزيداً من الأعداء إن أبقى على التمييز وسمح باستمرار الفساد، وعندها لن تحميه الإجراءات الأمنية وإن كانت متقنة.

حميد الكفائي

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/329404