إيلاف 19 تموز 2006

كنت أتحدث مع عدد من الإعلاميين العرب على هامش مؤتمر الإعلام العربي الذي عقد في أبو ظبي شهر حزيران الماضي (2006)، والذي حضره إعلاميون عرب وأجانب من معظم المؤسسات الإعلامية العربية والأجنبية المنتشرة في العالم، كما حضره مسئولون عراقيون وعرب وأجانب بينهم وزير الخارجية العراقي السيد هوشيار زيباري ومسئولون إعلاميون كبار بينهم عبد الرحمن الراشد وسعد البزاز وآخرون. وكان المؤتمر حقا مناسبة ثمينة لالتقاء الإعلاميين ومسئولي الإعلام العرب والأجانب وتبادل وجهات النظر حول قضايا الإعلام الكثيرة، الدولية منها والمحلية. كنا نناقش الأوضاع العربية بشكل عام وأوضاع الإعلام العربي وأولوياته وهل هي صحيحة أم لا، وماذا عليه أن يفعله كي يكون محايدا ومهدئا وليس محرضا، وناقلا للمعلومات وليس للآراء فقط.

وبعد مناقشة القضية الفلسطينية طبعا، عرجنا في حديثنا أثناء الاستراحة على الوضع العراقي وبدأنا نناقشه بقدر من التفصيل. وقد فاجأني صحفي عربي “مرموق” بسؤال غريب نوعا ما: هل الأخ سني أم شيعي؟؟؟ فأجبته بعد احتجاج خفيف على طبيعة السؤال أنني لا اهتم للفروق المذهبية بين المسلمين وبالنسبة لي الإسلام واحد وإن كانت هناك مدارس فقهية متعددة وتفسيرات متعددة للقرآن والسنة وروايات متعددة حول الأحاديث النبوية وما هو صحيح منها أو ضعيف، وقراءات مختلفة للتاريخ الإسلامي وأفعال الخلفاء والقادة العسكريين المسلمين. فتدخل أحد المناقشين قائلا “هذا كلام الشيعة… فهم دائما يتحدثون عن الوحدة الإسلامية ويرفضون الإفصاح عن هويتهم المذهبية”! وقد عجبت لهذا الكلام أولا لأنه غير صحيح، فالكلام عن الوحدة الإسلامية غير مقتصر على الشيعة، ومؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية لم تكن شيعية بل جامعة للكل، وثانيا لأن الكثير من السنة، خصوصا في البلدان المتعددة المذاهب كلبنان واليمن والعراق وبعض دول الخليج، يرفضون التصنيفات المذهبية، بل إن المثقفين بشكل عام لا يرغبون في أن يوضعوا في أطار ضيق سواء كان مذهبيا أو عرقيا أو مناطقيا.

على أي حال لم تكن إجابتي كافية على ما يبدو لصاحبنا الصحفي “التقدمي جدا” و”العلماني” حسب قوله، وهو على ما يبدو مصِّر على تصنيف الناس مذهبيا رغم إرادتها، فأردف سؤاله بسؤال آخر حول مذهب والديّ! وهل كانا شيعيين أم سنيين! فقلت له إن الوالدين توفيا منذ زمن بعيد رحمها الله برحمته الواسعة ولم أسألهما يوما إن كانا سنة أو شيعة. ولم يكن هذا الجواب تهربا من الإجابة على السؤال، بقدر ما هو تهرب من التصنيف المذهبي، لكن الحقيقة هي إنني لم افتح موضوع السنة والشيعة يوما مع الوالدين إطلاقا ولم نكن نصنف الناس على أسس مذهبية أو عرقية. قد يقال إن فلانا أصله من البصرة وفلانا من الحلة أو النجف، بل قد يقال إن فلانا من أصل إيراني أو تركي، فنحن ابتلينا بالتصنيفات العرقية في العراق بسبب سياسة التمييز التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة وحكومة صدام على وجه التحديد، لكن الموضوع المذهبي لم يطرح يوما على بساط البحث على مستوى عائلتي على الأقل إلا مرة واحدة وبشكل عابر عندما طرح أخي الأمر ذات يوم على الوالد عند مناقشته لمشكلة عائلية… إذ عزى أخي المشكلة إلى الخلاف السني-الشيعي فقال له الوالد “وما شأنك أنت وهذا الخلاف التاريخي؟” فقال له إنه لا شأن له به لكن آخرين تدخلوا في الأمر وسببوا المشكلة في عائلته المختلطة مذهبيا…

على  أي حال، نعود إلى صاحبنا الصحفي العربي.. قال لي بعد نقاش طويل “أنتم العراقيون طائفيون في كل شيء حتى في أسمائكم”!! فعجبت مرة أخرى وتساءلت: “كيف توصلت إلى هذا الاستنتاج الخطير؟” فقال انظر إلى أسماء رؤساء الوزارات الجدد عندكم، فهم يتسمَّون بأسماء المذاهب! إبراهيم الجعفري، ونوري المالكي! وأياد علوي (كما نطق الاسم)! ثم التفت إلى اسمي أيضا وقال “أنظر إلى اسمك أنت فهو اسم ديني أيضا”! وعندما أظهرت علامات التعجب والذهول وخيبة الأمل على كلامه الفوضوي هذا، تساءل قائلا: ألم تسمع بالواجب الكفائي؟ فقلت له إنني لم أسمع به فحسب بل أديته ذات يوم إثر اضطراري لذلك.

تأملت في ما قاله هذا الصحفي وفكرت أين أبدأ في إجابته وعجبت لهذا الجهل المطبق عند بعض مشكّلي الرأي العام العربي الذين يفترض أنهم يعرفون تفاصيل الأمور بدقة كي ينقلوها بأمانة إلى متلقيهم من المواطنين العاديين. وأدركت حينها كم نحتاج، نحن العراقيين، من عمل جدي مدروس بعناية كي نتمكن من توضيح الكثير من الأمور التي نعتقد أنها بديهيات عندنا، لكنها مجاهيل عند الآخرين، وكم نحتاج لأن نختلط مع أخواننا العرب في كل محافلهم ومناسباتهم ومؤتمراتهم كي نضع تصوراتنا أمامهم. الكثيرون منهم يريدون أن يفهموا العراق والعراقيين حقا، لكنهم لا يحصلون على المعلومات الكافية وقد لا يجهد بعضهم نفسه عناء البحث كي يعرفها. بالإضافة إلى الوضع الأمني في العراق لا يسمح للكثيرين الراغبين في معرفة شؤون العراق من المجيء إليه كي يتعرفوا عن قرب على أوضاعه ومشاكله[1].

قلت له يا أخ كيف تسمح لنفسك أن تكون بهذه البساطة؟ لماذا لم تتعب نفسك قليلا في البحث قبل أن تطلق هذا المعلومات في الفضاء؟ فالجعفري لم يكن سوى اسم حركي اتخذه السيد إبراهيم الأشيقر عندما كان في المعارضة، تماما مثلما اتخذ عبد الرحمن القدوة اسم ياسر عرفات ومحمد بوخروبة اسم هواري بومدين، ووليام بلايذ اسم بيل كلنتون، وغيرهم كثيرون على مستويات مختلفة ولأسباب مختلفة. أما المالكي فهو ليس مالكي المذهب بل جعفري، وإن اسم عشيرته بنو مالك، وكذلك علاوي فهو ليس علويا وإنما اسم عائلته “علاوي” وهي من العائلات الشيعية المعروفة في بغداد. أما اسمي أنا فهو اسم قبلي بسبب انتمائي لقبيلة البوكفاية[2]، ولا علاقة لها بالواجب الكفائي. وأنا شخصيا لا أفضل الأسماء القبلية لكن الأسماء تفرض على الإنسان أحيانا، وأتذكر أنني في فترة من الفترات كنت أوقع على البيانات السياسية للمعارضة العراقية سابقا باسمي الثنائي دون ذكر اللقب، لكن معدّي البيانات كانوا يصرون في أغلب الأحيان على نشر اللقب بهدف تشخيص هوية الموقِّع وتعريف الناس به.

يعجب العراقيون لماذا يجهلهم الإعلام العربي ولماذا لا يتفاعل معهم كل هذه السنين.. لكن العجب يبطل عندما ننظر إلى الأوضاع ونقيمها بشكل موضوعي. دعونا ننظر إلى وسائل إعلامنا مقارنة مع وسائل الإعلام العربية كما ونوعا ومهنية. فهل لدينا وسيلة إعلام عربية التوجه كقنوات العربية والجزيرة وأبو ظبي مثلا؟ كم من وسائل إعلامنا تقدم برامج يمكن للعرب أن يشاهدوها؟ وكم منها يدار بحيادية ومهنية؟ كم منها يقدم فرص تدريب للصحفيين؟ كم منها حاول التعاون من وسائل الإعلام الأجنبية التي لها خبرة طويلة في العمل الإعلامي المحايد؟؟؟ كم منها سعى إلى توظيف أصحاب الكفاءة وقيَّم عملهم وكافأهم بما يستحقون؟

إن الإيغال في المحلية عند معظم وسائل الإعلام العراقية لن ينفعنا بشيء بل سوف يبقي القضية العراقية مجهولة وغامضة بالنسبة لمعظم العرب وعلينا أن لا نلوم إلا أنفسنا على هذا التقوقع. القضية العراقية لها أبعاد عربية وإقليمية ودولية ويجب على إعلامنا أن يفهم هذا قبل فوات الأوان. القنوات الموغلة في الطائفية والمحلية لن يشاهدها إلا القلة من العراقيين، وهي لن تؤدي الغرض الذي أنشئت من أجله، حتى وإن كان طائفيا. نحن بحاجة إلى وسائل إعلام ترتقي إلى مستوى التحديات وتدار من قبل متخصصين وخبراء وليسوا هواة أو متصيدين في المياه العكرة ممن لا يجيدون إلا فنون التزمير والتطبيل والمدح والذم التي لم تعد مؤثرة كما يتوهم البعض بل أصبحت منفرة وذات تأثير عكسي. المسئولية الكاملة تقع على المسئولين عن الإعلام العراقي في القنوات العامة والخاصة. عليهم أن يدرسوا أداء وسائل الإعلام التي يديرونها جيدا، ويعيدوا رسم خططها وكيفية الارتقاء بخطابها الإعلامي كي يصل إلى أكبر شريحة ممكنة، عراقيا وعربيا وعالميا، لأن التقوقع سيقودنا حتما إلى التطرف.

 

[1] لابد من الإشارة هنا إلى أن هناك صحفيين عربا كثيرين بحثوا وتمكنوا من فهم العراق بشكل جيد وغطوا أحداثه بموضوعية وحياد فائقين وأود أن أذكر هنا أسماء صحفيين من بلدان عربية مختلفة عملوا بجد وموضوعية وحياد عندما قدموا إلى العراق عام 2003 ويأتي في مقدمتهم باسم الجمل وإيلي ناكوزي من قناة العربية وأكثم سليمان من الجزيرة وخليل عثمان من البي بي سي، بل وحتى وضاح خنفر، المدير الحالي لقناة الجزيرة،  كان موضوعيا ومُجيدا في تقاريره عندما كان مراسلا لقناة الجزيرة في بغداد.

[2] الاسم العامّي للعشيرة هو البوگفاية من زورق “الگفايةأو “الگفة” المستخدم في النقل المائي في الأنهر والأهوار. الكثيرون من المنتمين لهذه العشيرة التي تقطن الفرات الأوسط يتلقبون بـ (الگفاوي) مثل الشهيد الدكتور عباس عصفور صافي الگفاوي، الأستاذ في جامعة بغداد الذي أُعدم بطريقة “مبتكرة” عام 1979 بسبب معارضته لنظام صدام حسين، لكن آخرين بينهم كاتب السطور،اختاروا النسخة “الأكثر فصاحة” من الإسم (الكفائي)، وهذا مألوف في عشائر كثيرة أخرى في العراق مثل عشيرة الخزاعل (أو خزاعة) فهناك من يتلقب بالخزاعي وهناك من يتلقب بالخزعلي وهم عشيرة واحدة وكذلك بالنسبة لعشيرة الجبور فهناك الجبري وهناك الجبوري وعشيرة (جريش) فهناك الجريشي وهناك القريشي، وعشيرة (الفجيجات) فهناك الفكيكي والفجيجي وهكذا. شخصيا أتمنى لو تخلينا عن الألقاب العشائرية وأبقينا أسماءنا المجردة كما كانت العرب تفعل سابقا.